هناك بكائيّة في نقد التكنولوجيا، يجدر التنبّه إلى أنها صارت خلف التاريخ. في لقطة تصلح ربما لإعلانات تلفزيونيّة، يمكن تكثيف الهرج السائد في تعامل الإعلام العربي مع العلوم والتكنولوجيا، عبر اثنين من «إيموتكنز» emoticons: وجه ضاحك إلى أقصى حد (بمعنى غياب النقد)، وآخر يذرف الدمع مدراراً. يشبه الوجه الأخير الوقوف على أطلال الماضي الذي تستمرئ عقول عربيّة كثيرة تصويره دوماً كزمن ذهبي لا تشوبه شائبة، ولا تكون التكنولوجيا بالنسبة إليه إلا تخريباً لذلك الماضي وإرثه. كان الزمن رائعاً، وكل شيء كان إنسانيّاً مذهلاً، ثم جاءت التكنولوجيا وخرّبت كل شيء: تلك هي حال النقد البكائي للتكنولوجيا. ربما لا يتنبّه كثر من أصحاب تلك البكائيّة أنهم لا يفعلون سوى تكرار النقد الذي حملته رواية «فرانكنشتاين» للعلوم والتكنولوجيا. القصة معروفة تماماً، ولا بأس من استعادتها. ففي صيف 1816، زارت الشابة الإنكليزية ماري ولستونيكرافت غودون وخطيبها، لاحقاً زوجها، الشاعر بيرسي ب. شيللي، صديقهما الشاعر المتمرّد لورد بايرون، في منزله قرب بحيرة جنيف بسويسرا. وأرغم الطقس المتقلّب الأصدقاء على البقاء داخل المنزل معظم الوقت. وتحدّى بايرون أصدقاءه بأن يكتبوا ما يشعرون به. وردّت الصبية ذات التسعة عشر ربيعاً، التي ستعرف لاحقاً باسم ماري شيللي (1797 - 1851)، بأنها ستكتب رواية كاملة من وحي كوابيسها، وفي زمن قياسي. هكذا ولدت رواية «فرانكنشتاين». تتحدث القصة عن طبيب اسمه فيكتور فرانكنشتاين يبدي حماسة فائقة للعلم، بل يرى ضرورة أن لا توضع حدود في وجه تقدم العلم وتجاربه. وينجذب الطالب إلى فكرة مفادها أنّ الكهرباء تحرك أعصاب الجسم، وبالتالي تحرّك الإنسان كله. هل هي كلمة السر في الحياة؟ يجري الطبيب فرانكنشتاين تجربة مثيرة. يجمع قطعاً من أجساد حديثة الوفاة، ويعرّضها لتيارات كهربائية يجمعها من صواعق السماء. النتيجة؟ يتكوّن مسخٌ خرافي، هائل القوة لكنه مفزع ومرعب. ويدخل المسخ في مأزق «وجودي»، إذا جاز التعبير. إذ يرفضه البشر، فينعزل عنهم، لكنه بشر أيضاً. ويعاني من وحدته في عالم الإنس. وشيئاً فشيئاً، تحوّله الوحشة وحشاً لا يتوقف عن القتل. العلم ونقد «المطلق» انحفرت رواية «فرانكنشتاين» بقوة في الثقافة والمخيّلات. وفي أحد تفسيراتها الشائعة، تقَدّم رواية شيللي على أنها نقد للعلم، أو بالأحرى رواية عن سوء استخدامه. ماذا تعني عبارة من نوع «سوء استخدام العلم»؟ ربما تعني أن العلم في حدّ ذاته ناصع ولا مشكلة معه أبداً، ولا يطرح مشاكل أخلاقيّة أو فلسفيّة. بذا، توضع المشكلة خارج العلم. في تلك العبارة، يبدو العلم جوهراً مطلقاً، لا يطاوله لوم ولا نقد. وفي عبارات أخلاقيّة، بالمعنين الديني والفلسفي، يبدو العلم خيراً كاملاً، لا يصدر شر عنه. أليس من الصعوبة في مكان قبول عبارات ك «شر مطلق» أو «خير مطلق» لوصف أشياء تصدر عن عقول البشر وتجاربهم؟ وكيف يمكن القبول بأن ما ينتجه عقل البشر مطلق، بل خير مطلق؟ يمثّل القول بأنّ مشكلة العلم هي سوء استعماله، إعلاءً للعلم إلى مستوى يرفعه عن البشريّة. كيف يمكن القبول بذلك والبشر هم منتجوه ومستخدموه؟ وتبدو الكلمات السابقة كأنها تقيم تضاداً حاداً بين «البشر» و «العلم». وفي معنى تلك الكلمات، تكون الرداءة والسوء والخطر، أو الشر بالمعنى الأخلاقي والفلسفي، من شأن البشر وحدهم! بذا، يصل التضاد إلى التناقض: ذلك أنّ إنتاج العلم هو من أفعال البشر أيضاً، كحال استخدامه. أكثر من ذلك، يصعب استخدام العلم استخداماً مجدياً وفاعلاً لمن لا ينتجه أو يشارك في إنتاجه. وفي الحدّ الآخر من التناقض عينه، يبدو العلم كأنه فاقد لكل قيمة أخلاقيّة وفلسفيّة، فلا تصعب على من يحمله إرادة سوء الاستخدام. راسل والذرّة واللغة ثمة جوانب أخرى للموضوع نفسه. ففي السجالات التي دارت في فرنسا في تسعينات القرن العشرين، بين جيل لوكور ودعاة الوضعيّة المنطقيّة (من أنصار شيلك ورايشنباخ وكارناب وغيرهم)، حاج لوكور بضرورة «الشجاعة في العلم»، وانتقد تمجيد الوضعية المنطقية للعلم. وفي معنى ما، تضيف تلك المحاججة بعداً آخر للموضوع. وفي تطوّر ربما لم يكن محسوباً تماماً، ثمة ميل معاصر إلى مطابقة العقل مع العلم، سواء إيجابيّاً بتبنّي العلم من دون نقد، أو سلبيّاً عبر ربط غير العقلي (الحدس، الروحانيّة، الماورائيّة...)، مع التقليل من شأن العلم. لنترك نقاش العلاقة بين العقل والعلم. لنعد إلى النموذج الفرانكنشتايني وبكائيّته في نقد العلم. من المستطاع تذكّر أن كارل بوبر، وهو فيلسوف ألماني انشغل بالعلم، احتج بنبرة عالية على تصنيفه ضمن مفكري الوضعية المنطقية. واشتهر عن بوبر قوله «ما هو قابل للنقض يكون علماً، وما ليس قابلاً للنقض ليس علماً». ومن الواضح أن الألماني بوبر والفرنسي لوكور لا يريان في العلم جوهراً يعلو عن كل شر، بمعنى أنه قابل للنقد، تماماً مثلما كل أعمال البشر قابلة للنقد أيضاً. في القرن العشرين، برز الفيلسوف برتداند راسل الذي اشتغل على منطق الرياضيات. عند تفجير القنبلة الذريّة، اتّخذ راسل موقفاً أخلاقيّاً منها، ورأى في القنبلة الذرية نموذجاً أقصى للفرانكنشتاين الحديث. وفي المقابل، ذهب راسل إلى حدود قصوى في المماهاة بين العقل والعلم. وامتدت تلك المماهاة إلى اللغة، التي هي شيء مركّب ومعقّد وتاريخي. وأراد راسل، كما هو معروف، أن يحوّل اللغة معادلات علمية منطقية صارمة. واحتاج إلى تجربة امتدت على مدار عمره تقريباً، ليقرّ بخجل باستحالة إخضاع اللغة لمعادلات الرياضيات. وفي كل حال، بدا راسل مستقطباً تماماً بين ثنائيّة التمجيد الأقصى للعلم من جهة، والإدانة القصوى ل «سوء استخدامه» من الناحية الثانية. وربما كان ذلك التمزّق من الأسباب التي جعلت فلسفة راسل تتضاءل في تأثيراتها تدريجيّاً إلى أن تلاشت تقريباً. نعود راهناً إلى الروائيّة ماري شيللي. إذ إن الضجة التي يحدثها النقد المقتصر على سوء استخدام العلم، أثبتت عدم جدواها، بالمعنى البراغماتي المباشر لكلمة جدوى. ولم تؤدّ تلك الاعتراضات البكائيّة إلا إلى استمرار التوسّع في السلاح الذري، وتطور سُبُل الاستنساخ ووصوله إلى البشر، وارتفاع حدة التلوث وما إلى ذلك. والأرجح أن ذلك يعني دعوة الفلسفة مرّة أخرى، إلى تجديد تفكيرها بالعلم والعقل، مع الإشارة إلى أن ذلك هو شيء في أصل ظهور الفلسفة وأساسها أيضاً.