عندما يُسأل المخرج الأميركي ألكسندر باين عن سر سينماه، يبتسم كالمازح ويقول: «المسألة بالنسبة إليّ بسيطة... أقرأ الكتاب الذي أرغب في تحويله فيلماً حتى أحفظه ثم أضع الكتاب جانباً وأنساه. وعند ذلك أبدأ في تحقيق الفيلم». من الواضح هنا ان إجابة باين لا تستقيم تماماً مع ما كان من سأله يتوخى الحصول عليه من ردّ. ولا سيما ان سينما باين، في أفلامها القليلة التي حُققت حتى الآن، ليست سينما أدبية ومن الصعب توقّع ان تكون افلامه مأخوذة حقاً عن كتب او روايات أو ما شابه ذلك. لكنّ ثمة هنا شيئاً في الأمر قد يبدو غريباً: على رغم ان الكثير من افلام هذا الخمسيني الشاب جداً قد رشح لجوائز كثيرة، من بينها أوسكارات متنوعة لأحسن فيلم وأحسن إخراج، فإن معظم ما فاز به حتى الآن هو جوائز للسيناريو. بل يكثر عدد هذا النوع من الجوائز في شكل لافت يدفع الى التساؤل عما إذا كان على مخرج «دروب جانبية» و «نبراسكا» وبخاصة «حول شميت» أن يقرّ بينه وبين نفسه بأنه يصلح ككاتب سيناريو اكثر مما يصلح مخرجاً للأفلام. مكان للممثلين المبدعين لكن هذا الإقرار لن يكون صحيحاً بأي حال من الأحوال، وفي إجماع النقاد الأميركيين والأوروبيين، ولكن كذلك في إجماع لجمهور لا بأس بعرضه بات متكوناً من حول سينما ألكسندر باين التي تبدو في نهاية الأمر متقشفة ذات مواضيع تدخل الى الصميم. بل بشكل أكثر تحديداً: سينما تغلب عليها افلام الطريق والرصد الهادئ لأخلاقيات المجتمع الأميركي. بيد ان الأهم من هذا هو قدرة باين الفائقة على ان يرسم شخصيات أفلامه، سواء كانت رئيسية أو ثانوية بدقة وإحكام ما يجعل أداء هذه الشخصيات يتطلب التعاون مع ممثلين استثنائيين، من امثال جاك نيكلسون أو أخيراً بروس ديرن السبعيني الذي كان يبدو منسياً منذ سنوات، حين اعطاه باين الدور الرئيس في فيلمه الأخير – حتى الآن – «نبراسكا»، فإذا به يحصل على جائزة أفضل ممثل عن هذا الدور في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» ويبدو قبل اسابيع احد المرشحين الأقوياء لأوسكار أفضل ممثل من دون ان يحالفه الحظ لنيله. بل إن الحظ لم يحالف «نبراسكا» لنيل اي اوسكار متوقع، ما شكّل لغطاً لدى النقاد. مثل هذا يحدث على اية حال دائماً مع باين وسينماه، ومن هنا لم يعد من شأن هذا الأخير ان يقابله بأكثر من ابتسامة تاركاً الباقي في عهدة نقاد يضعونه بين دزينة او نصف دزينة من مخرجين مجايلين له باتوا يشكلون ما نميل الى تسميته في هذه السلسلة «الكلاسيكيون الجدد في السينما الهوليوودية المعاصرة» الى جانب دافيد فينشر وبول توماس أندرسون وفيس أندرسون وغيرهم. فممّ تُصنع سينما باين وأين هي كلاسيكيتها الجديدة؟ ولماذا يفضله أهل الأوسكار كاتباً للسيناريو مع انه لم يكتب اي سيناريو وحده حتى الآن؟ ولد ألكسندر باين العام 1961 في مدينة اوماها في ولاية نبراسكا التي ستدور فيها احداث معظم افلامه ولا سيما منها الأخير الذي سيحمل اسم الولاية. وفي طفولته المبكرة لم يكن هناك ما يشير الى ان ابن اصحاب المطاعم ذوي الأصول اليونانية – الألمانية سيسلك اي سبيل فني. لكن الظروف شاءت يوماً ان يهديه ابوه كاميرا من قياس 8 ملم لمناسبة عيد ميلاده الرابع عشر. فصارت الكاميرا شغله الشاغل وهاجس حياته. أغرم بها وبالصور المتحركة التي راحت تلتقطها... وأدى ذلك الى انقلاب حياته وتحديد مستقبله. وهكذا، من مدرسة الى اخرى وصولاً الى الجامعة، انصبت دراسته كلها على السينما، ولكنه اتجه بالتدريج الى كتابة السيناريوات التي كان سرعان ما يحولها افلاماً قصيرة او متوسطة من دون ان يفكر بأنها ستكون الأساس الذي يبني عليه مساره المهني المقبل. ولاحقاً، في الوقت الذي كان قد انجز فيه واحداً من افلامه الكبيرة الأولى «عن شميت»، سيقول باين ان «ما يدهشني الآن حقاً، هو اكتشافي ان معظم العلاقات التي ارسمها في افلامي ومعظم الشخصيات، موجودة بالفعل بتفاصيلها الصغيرة، إما في افلامي القصيرة الأولى وإما حتى في مخططات السيناريوات التي لم أنجز أبداً كتابتها»... كان من الواضح ان باين انما يعبّر – وربما بشكل عفوي – عن تلك المقولة التي تقول ان من يصنعنا انما هو الطفل الذي نكونه. ومع هذا، فإن من اللافت ان الشخصيات الأساسية وحتى الإشكالية في أفلام ألكسندر باين، كانت شخصيات اشخاص كبار في السن، بالمطلق – كما في «عن شميت» أو بخاصة «نبراسكا» – أو نسبياً كما في «الذرية» -، من دون ان ننسى هنا، إذ نستعرض المواضيع الرئيسة لأفلامه، ان الإشكالية الأساسية التي تبدو مسيطرة على هذه الأفلام هي مشكلة الترابط والتفكك العائليين. بل إن باين يكاد يكون في هذا الإطار واحداً من اكثر المخرجين الأميركيين المجايلين له اهتماماً بالسؤال الكبير: اين صارت الحياة العائلية في أميركا؟ ومن الجدير ذكره في هذا الإطار ان باين لا يطرح هذه الإشكالية/السؤال فقط في الأفلام التي يخرجها، بل كذلك في أفلام كتب لها السيناريو من دون ان يقوم بإخراجها بنفسه، كما حال ذلك الفيلم الرائع والحزين «آل سافاج» الذي كان من اقوى ما مثّله الراحل فيليب سايمور هوفمان. خاسرون وانتهازيون وطبعاً، لا يمكن القول هنا ان موضوعة العائلة هي الوحيدة التي تسيطر على افلام باين. فهي، فقط واحدة من موضوعاته الأثيرة. فهناك ايضاً موضوعة الخيانة والانتهازية – كما في «انتخابات» الذي قامت فيه ريس وايذر سبون بدور طالبة انتهازية تتصادم مع استاذ من الخاسرين خلال انتخابات طالبية جامعية تقوم هي فيها بكل الألاعيب كي تنجح، فيما يغش هو كي تخسر. والحال ان شخصية الأستاذ التي يلعبها ماثيو برودريك هنا تمثل خير تمثيل شخصية الخاسر – لوزر – التي يمثل حضورها اشكالية اساسية اخرى في سينما باين، بل يمكننا القول ان معظم شخصيات باين شخصيات خاسرة سرعان ما تتجمع الظروف والنيات الطيبة لدى الآخرين كي تحمل لها بعض العزاء، كما حال الشاحنة التي يشتريها الإبن لأبيه في نهاية «نبراسكا» لعلمه أن الحصول على الشاحنة بات يمثل مبرر عيش للأب! والشيخوخة إشكالية أخرى يطرحها باين كذلك في أفلامه الأساسية. ولكن بخاصة في فيلمين كبيرين له هما «عن شميت» (2002) وأخيراً «نبراسكا»(2013). فالشيخ في الفيلم الأول هو شميت الذي يؤديه جاك نيكلسون بروعة مشخصاً رجلاً ترمّل وحيداً وها هو الآن في رحلة يحاول ان يقوم فيها بزيارة الى بناته تكشف له كم ان ما من أحد يريد الآن ان يهتم به بعد ان تقاعد ولم يعد مفيداً لأحد. أما عجوز «نبراسكا»، بروس ديرن فمتقاعد آخر تعرض لعملية خداع أعلمته انه ربح ورقة يانصيب فحلم بشراء تلك الشاحنة التي يتوخى منها ان تعيده الى الحياة النشطة وتبعد منه شبح الشيخوخة والموت. وهو بعد رحلة في السيارة مع ابنه الذي يعرف حقاً ما لا يريد الأب ان يصدقه: اي ان لا جائزة هناك ولا من يحزنون، يكتشف الخسارة التي باتت تمثلها حياته، لكنه يجد عزاءه في شراء الإبن للشاحنة المنشودة. ومن ناحية مبدئية قد يبدو فيلم «الذرية» الذي قام ببطولته جورج كلوني، منخرطاً في هذا السياق المعتاد – والقاسي – لسينما باين، لكن هذا في السطح فقط. وذلك بالتحديد لأننا امام فيلم لا يقل شجناً عن بقية افلام صاحب «عن شميت» و «نبراسكا»... بل اننا هنا امام الموت المعلن لأم غائبة في الكوما تحتضر إثر اصابتها في حادث بحري، فيما بنتاها وزوجها – كلوني – من حولها، وفي الخلفية أملاك عقارية من اراض عائلية في جزيرة هاواي يراد بيعها لتحويلها مشروعاً سياحياً... غير ان المشكلة ليست هنا، والفيلم ليس فقط بيئوياً... الحكاية هنا هي ان الزوج يكتشف فيما زوجته في الغيبوبة انها كانت تخونه مع شخص آخر... ويضحي حائراً ومرتبكاً حيال الكيفية التي يتعين عليه التصرف بها. واضح هنا اننا امام فيلم عن المشاعر والتفكك العائلي والموت والخسارة... تماماً كما الحال في معظم افلام باين. وموضوعة الخيانة ايضاً، او ما هو قريب منها، في واحد آخر من أفلام الطريق التي يحققها ويبرع فيها ألكسندر باين، وهو فيلم «دروب جانبية» الذي حققه في العام 2004 ليُكتشف ويفوز في مهرجان مراكش السينمائي لافتاً الأنظار حقاً الى عمل هذا المخرج، بعدما كان باين قد قبع بالنسبة الى «عن شميت» الذي سبقه بعامين، في ظل حضور جاك نيكلسون الطاغي. في «دروب جانبية» امامنا حكاية شاب يقوم مع صديق له بما يسمى في التقاليد الأميركية بآخر رحلات العزوبية. حيث قبل عرسه يريد ان يتمتع بآخر ما تبقى له من حرية قبل السجن الزوجي. من ناحية ظاهرية، يعم هنا امام كوميديا فوضوية حافلة بالصعوبات والكوارث والمشكلات الناتجة من سوء التفاهم وما شابه ذلك... لكننا في الحقيقة نجدنا أيضاً امام ما يمكن اعتباره سؤالاً كبيراً حول الحلم الأميركي وحول العائلة والصداقة والخسارة... مرة أخرى. واضح هنا اننا في الإجمال أمام سينما شديدة الأميركية وشديدة القلق، ما يجعل من ألكسندر باين مخرجاً اميركياً بامتياز، حتى وإن كان قد شارك بإسكتش لافت صوّره في باريس ضمن اطار الفيلم الجماعي «باريس أحبك»... وأميركية باين - التي يقاربها كثر من النقاد اليوم بأميركية سلف كبير له هو بيلي وايلدر صاحب «الشقة» و «سانست بوليفار» بين روائع سينمائية أخرى - تتجلى كذلك في مساهماته الكتابية في افلام تتسم بدورها بقسط كبير من النزعة الأميركية مثل الجزء الثالث من «الحديقة الجوراسية» والكوميديا العائلية «تعرّف الى الأهل» (2000)، ما يجعل – الى اعمال أخرى – ألكسندر باين يحسب في خانة كتاب السيناريو المرموقين بمقدار ما يحسب في عداد مخرجي الكلاسيكية الجديدة في السينما الأميركية وهما أمران سيؤكدهما، كما يبدو من خلال إنجازه حالياً لفيلمه الروائي الطويل السابع «ويلسون». وفي الانتظار، يحصد ألكسندر باين الآن ثمار النجاح الطيب لفيلم «نبراسكا» من دون ان يبالغ في التعبير عن خيبة امله إزاء اهل الأوسكار الذين لم يجدوا في هذا الفيلم ما يؤهله لجوائزهم. من فيلم «الأحفاد» ... ومن فيلم «نبراسكا»