احترق بيت مريم. أصابه مسّ كهربائي ولد حريقاً اتى على البيت وما فيه، ولولا العناية الالهية لأتى على « من فيه» ايضاً. حمداً لله على سلامة مريم الممسوسة بالحبر والشعر وغوايات كثيرة منها غواية الصداقة وحسن الضيافة وكرم المحبة. صاحبة البيت المفتوح دائماً لأصدقاء وشعراء وفنانين ومنفيين ومشردين وصعاليك لم يجدوا في المدينة من يفرش لهم بساط الأخوة والمودة سواها وسوى مائدتها العامرة الشهية المملحة بالقصائد والاحاديث والضحكات الطالعة من عمق أعماق القلب ووجع «الخواصر». احتراق بيت مريم يعني احتراق بيت كثيرين. كل واحد منهم له ذكرى طيبة في بيتها، سواء من يعترف قائلاً لها شكراً يا أختاه، أو من نكرها قبل صياح الديك. كلهم مروا من هنا، شعراء، مطربون، صحافيون، أو «بين بين» من أولئك الذين لم يحسموا أمرهم يوماً فلا كانوا في الشعر ولا كانوا في النثر، كأنهم لا كانوا في الحرّ ولا كانوا في القرّ. وهذا شأن الدنيا، يا مريم، وسنّة الحياة. منهم من يحفظ المودة والذكريات الطيبات ومنهم يصح فيه قول أبي الطيب: إذا أنت أكرمت الكريم.... تعرفين البقية. مريم... تتمتها شقير أبو جودة، الاديبة والصحافية المعروفة وسيدة البيت والمجتمع، مُحبّة الحياة والسهر والليل الطويل كأنها شاعرة عيش وسلوك أكثر منها شاعرة حبر وورق. قصيدتها الأطول عمر كامل من الكفاح في مهنة المتاعب، بل في محنة المتاعب المسماة صحافةً وإعلاماً. هي التي صالت وجالت في الصفحات والشاشات وكانت من عداد ذاك الجيل البهي الذي انطلق في بداية السبعينات مسبوقاً بأحلامه الكبرى وأمانيه العراض قبل أن تبدأ الحرب فتقصف أعماراً وأحلاماً وتعطل المسار الطبيعي لبلد كان يدعى يوماً سويسرا الشرق. من لم يمت بالسيف مات بغيره. ومن لم يحترق بيته بنيران الاعتداءات الاسرائيلية أو برصاص الحروب المسماة أهلية احترق بالكهرباء! معرفتي العميقة بمريم تجعلني واثقاً بأنها تفضل السيف على غيره، ما كانت لتحزن لو أن بيتها دُمر أو احترق بفعل عدوان تموز مثلاً، لكانت اعتبرته قرباناً من جملة القرابين الهائلة التي قدمها لبنان ولا يزال فداء تراب تعشقه وتهواه، ولكانت عزّت نفسها بأن ساوتها بآلاف اللبنانيين الذين خسروا بيوتاً وسنوات وذكريات لا تُعوّض. ليس فقدان أثاث البيت ما يحرق القلب ولا ديكوراته وخشبه وقماشه وصالونه البسيط الذي كانت صاحبته توسعه بالضحك والمودة. هذه كلها أشياء يمكن تعويضها، لكن من ذا الذي يعوّض الذكريات وشميمها وفوحها وبوحها؟ من يعوّض الدفاتر العتيقة والنصوص التي لم تُطبع؟ من يعوّض البومات الصور القديمة وزمن الأبيض والأسود وعبق عمر كامن في ثنايا الأشياء المحترقة؟ من يعوّض تلك المائدة العامرة بما لذ وطاب من أصناف يختلط فيها الحبر بالملح، حبر الشعر والنثر والغوايات المضنية الفاتنة، وملح الأخوة والمودة والامتنان لكل من قال لصاحبه كلمة طيبة في زمن الخبث المستشري أوراماً مستعصية في الأفراد والجماعات. مريم التي أخذها الحبر حتى الثمالة والمهنة حتى التعب ظلت تهز جذع نخلتها على رغم الانشغالات، أنجبت صباياها الثلاث (ميرا، غادة، إلهام) بين حرب وهدنة، بين شرق وغرب، ظلت دائماً الأم الحاملة هم بناتها وأسرتها، كلما أصابها مكروه خرجت منه أقوى، فقدت الأم والزوج وعاشت أياماً عصيبة كثيرة، لكن كل ذلك لم يمنعها من أن تظل بيتاً لمن لا بيت له، وأختاً كبرى لمن حرمته الدنيا نعمة الأخوة، ولئن خيرتها في الأخوة من تكون لكانت هابيل لا قابيل! احتراق بيت صديق أو صديقة لا تطال نيرانه فقط أهل البيت المقيمين فيه بل تتعداه الى أهله غير المقيمين مثلي، ذلك أن بيتاً كبيت مريم، وعطفاً على ما أسلفت، هو بيت كثيرين لست سوى واحد منهم. أشم رائحة الدخان متحسّساً طعم الرماد عساني أجد فيه بقايا ضحكة أو قصيدة، ولا أجد ما أقوله لمريم سوى ما تقوله صديقتها التي أخذتني يوماً اليها: بيتي أنا بيتك...