يجمع علماء الآنثروبولوجيا أن مرحلة عصر اكتشاف الزراعة التي أعقبت مرحلة الصيد تعتبر أصل ومنشأ وضع أولى لبنات الحضارة البشرية، حيث الزراعة تحتاج إلى تدبير لتنظيم إصلاح الأرض وشق الترع، والزارع هنا مضطر إلى أن يستقر لبناء المساكن ودراسة الفلك واختراع الكتابة وتسجيل الحسابات ومراقبة النجوم لكي يضبط بها مواسم البذر والحصاد. ومع اكتشافه للزراعة والذي تزامن مع اهتدائه إشعال النار، بدأت رحلة اغتراب الإنسان عن ذاته، ولا نقصد بلفظة (الاغتراب) الإشارة إلى مفارقة المحيط أو تبدل الإقامة والعيش خارج الوطن، وإنما قصدنا مصطلح الاغتراب باعتباره ظاهرة - سيسيو تاريخية- آنطولوجية أو حتمية تاريخية ملازمة لتقدم حياة الإنسان وتعبر عن حالة فقدانه الاتجاه في المجتمع أو العجز عن التلاؤم معه، وهو ما يؤدي بالإنسان ترك المحيط أو الانكفاء السلبي على الذات. وقد عنى هيجل بظاهرة الاغتراب عناية مركزة، واعتبر الإنسان مغترباً بالضرورة، وأن تاريخ الإنسان هو تاريخ اغترابه، وربط ماركس الاغتراب بالواقع الاقتصادي الاجتماعي، ففي نظرية العمل المغترب حصر ماركس ظاهرة اغتراب الطبقة العمالية في المجتمعات الرأسمالية دونما إيلاء أي أهمية لأشكال الاغتراب الأخرى، وأعطاها ماركس وصفة علاجية جاهزة تشترط تبديل علاقات الإنتاج وملكية وسائل الإنتاج وإيجاد نمط علاقات اقتصادية يستتبعها علاقات اجتماعية إنسانية اشتراكية عادلة، وبذلك يزول الاغتراب، بينما عالج فرويد موضوع الاغتراب من وجهة نظر التحليل النفسي الطبي، واعتبره انحرافاً مرضياً لدى الإنسان يتوجب الشفاء منه كمرض بالتحليل النفسي. عبر كثير من الأدباء عن حالات الاغتراب التي يتعرض لها الإنسان في المجتمعات الصناعية أو داخل الأحزاب الشمولية المتصارعة على السلطة، وتعتبر رواية ألبير كامو «الغريب» ورواية جان بول سارتر «الغثيان» نماذج غربية شهيرة عالجت الاغتراب في المجتمعات الغربية وقد بتصديرها أدباء عرب عالجوا هذه الأزمة البشرية من خلال أعمالهم الأدبية فكان نجيب محفوظ أحد الرواد في هذه الحقل الأدبي عندما عبر عن الاغتراب في رائعته «السمان والخريف» وبطلها المأزوم عيسى الدباغ، المرشح لمنصب وكيل وزارة، ولكن بعد سقوط الحزب الوفدي الذي ينتمي إليه، تعرض عيسى وأبناء حزبه لتصفيه شاملة وعملية تطهير لاجتثاث مخلفات حزبهم البائد. فكانت شخصية الدباغ تعبر عن الإنسان الذي يشعر بأنه تلوث داخلياً ولم يعد قادراً على التلاؤم مع الجيل الجديد؛ لأنه من الجيل الزائل، يقول عيسى عن نفسه وعن أبناء حزبه: «مع أي عمل سنتخذه سنظل بلا عمل؛ لأننا بلا دور، وهذا سر إحساسنا بالنفي كالزائدة الدودية». ولعل الأديب السوري الكبير حيدر حيدر أبرز الأدباء العرب الذين وظفوا مفهوم الاغتراب بكل اقتدار في أعمالهم الأدبية، ففي آخر أعماله الأدبية «هجرة السنونو» وبطلها هزيم، إنها هجرة الاغتراب الممزوجة بالسيرة الذاتية، ومن رمزية الاسم (هزيم) عبرت الرواية عن هزيمة الإنسان العربي وخيباته المتوالية جيلاً بعد جيل، المتمثلة في شخص هزيم، وشخصيته المحبطة. وكما أن حيدر حيدر رائد في التعبير الأدبي عن حالات اغتراب الإنسان فإنه يعتبر أيضاً من ضمن الرواد في استيراد تقنية (تيار الوعي) في السرد الروائي أو كما تعرف بتداعي الذكريات، كما هي الحال مع الأديب الراحل إدوارد الخراط في روايته الشهيرة «رامة والتنين». كان تيار الوعي في روايات حيدر حيدر أحد الأدوات التي ساهمت في تعميق حالة الاغتراب في الرواية، فظهرت رواية هجرة السنونو جملة من التأملات المكتوبة بلغة شعرية فائقة الإبداع، دارت حول الزمن والمكان والوطن والحب والحرب والهوية الضائعة والإنسان العربي المستلب في تداخل شعري، وهذا التداخل الشعري يعد تياراً جديداً في كتابة السرد أطلق عليه حيدر حيدر في أحد حواراته مسمى «أسلوب على حافة الشعرية». فهذه النظرة التشاؤمية في هجرة السنونو، والتي جسد فيها الكاتب البلدان العربية كغابة أو مأساة لا يملك الإنسان العربي إزاءها إلا أن ينقرض أو يقضي ما تبقى من عمره يزدرد خيباته الخيبة تلو الأخرى، إنها سلسلة من الهزائم على الصعيد الاجتماعي والأسري والسياسي، والبحث عن الأنا في المنفى، يعبر فيها أبطال الرواية عن حال السخط على الأوضاع الاجتماعية والتناحر الطائفي المتغلغل في جسد الوطن. كانت الرواية سيرة ذاتية لم ينكرها حيدر حيدر، ووظف فيها تكنيك (تداعي الذكريات) أروع توظيف، لكي تساعده في عملية استرجاع ذكرياته الشخصية في مسقط رأسه طرسوس وتنقله بين المدن وترحاله ما بين طرسوس ودمشق ومنفاه ما بين بيروت وقبرص وعودته في أخر المطاف لموطنه سورية. يقول الكاتب على لسان بطل الرواية هزيم: «والآن أنت بلا وطن أيها السيد الهارب، ولا بيت، ولا امرأة، رجل فائض ومعوم تتشرد فوق سطوح مدن العالم». فهذه اللوحات السوداء المرسومة في أدب حيدر حيدر، والتشاؤم الموغل في الذكريات المحبطة والأنا المستلبة، والحضور الدامي للموروث القبلي والتاريخي هي السمة الأساسية التي ميزت أدبه، ونصبته على هرم الرواية الاغترابية في العالم العربي.