«... طموحي ليس أن أحظى بإعجاب الجميع، بل أن أتخذ دائماً الخيار الأفضل»، هذا ما قالته وزيرة الخارجية الإيطالية فيديريكا موغيريني عندما اختيرت لتكون المسؤولة العليا عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. أشار اختيار موغيريني لهذا المنصب الرفيع والحساس في الهيئة السياسية القيادية للاتحاد الأوروبي، إلى بداية انخراط ممثلي الجيل الأوروبي الجديد في مؤسسة القيادة. وتعيين موغيريني في هذه المنصب الرفيع في المفوضية الأوروبية قبل أقل من عامين لم يكن ليحصل من دون إصرار رئيس الحكومة الإيطالية ماتيو رينتسي ومطالبته بأن يكون الاتحاد أكثر قرباً من الجيل الشاب من مواطني دوله الأعضاء، وأن يكون تمسكه بالقيم الأوروبية أكبر وأكثر من اهتمامه البالغ بالوحدة النقدية. قبل ذلك، كان تعيين موغريني وزيرة للخارجية الإيطالية خلفاً للديبلوماسية العريقة والمتمرسة إيما بونيني، مبعثاً لاستغراب السياسيين والإعلاميين في بلادها وفي أوروبا أيضاً، وذهب رئيس الجمهورية آنذاك جورجيو نابوليتانو إلى الأبعد بإعرابه عن شكوكه في قدراتها السياسية وإدراكها ما يحدث في العالم من تفاعلات وتطورات وتغييرات حساسة وعاصفة. «السحر» البوتيني والحساسية الأوروبية موغيريني المعروفة باعتدادها بنفسها وولعها بشخصيتها، سارعت بعد اختيارها للمنصب الجديد إلى مضاعفة زياراتها الرسمية إلى الخارج وفي شكل خاص إلى روسياوأوكرانيا ودول الشرق الأوسط. وأثار لقاءها الرئيس الروسي بوتين انتقادات، واتهامات بالانحياز والميل إلى روسيا وسياستها أكثر مما لأوروبا ومصالحها وتجاهل واقع أن علاقات «الأوروبي» الراهنة متوترة مع الكرملين، وذهبت رئيسة لاتفيا داليا غريباوسكايتي إلى حد اتهامها ب «الانحياز السافر لروسيا» وبأنها «ذات طبيعة تسلطية وانفرادية»، وحدث هذا في سياق حملة دعائية قاسية استهدفت وثيقة سياسية أعدتها موغيريني وتسربت إلى الصحافة حول أولوية العلاقة مع روسيا، وما وضع الزيت في نار السخط عليها قيامها على رغم معرفتها بالحصار الذي يفرضة الاتحاد الأوروبي على روسيا بتوجيه الدعوة إلى الرئيس الروسي للمشاركة في القمة الأوروبية – الآسيوية في بروكسيل التي نظمتها ورعتها الإدارة الإيطالية الدورية للاتحاد الأوروبي، وما أثار سخط رفاقها في الزعامة الأوروبية أيضاً إعرابها عن دعمها مشروع خط أنابيب الغاز (ساوث ستريم) الذي تعارضه الولاياتالمتحدة وجمدت تنفيذه المفوضية الأوروبية، ما دفع خصومها ومعارضيها إلى فتح حساب على «تويتر» في عنوان «أوقفوا موغيريني» وهو موجه ضد تعيينها في هذا المنصب الأوروبي الذي رأى خصومها أنها غير جديرة به لنضوب معرفتها بخفايا السياسة الدولية وكواليسها. إلا أن المحللين الإيطاليين اتهموا منتقديها الأوروبيين بالنفاق، مشيرين إلى أنها ليست الوحيدة التي تتبع سياسة متوازنة مع روسيا، وإنما أيضاً ألمانيا وفرنسا. وردت موغيريني على سيل الاتهامات والشتائم الذي أغرقها بالقول «تعلمت من مادلين أولبرايت صعوبة أي بداية، إضافة إلى التحصن بقوة الموقف في المواجهة ومتابعة السير إلى الأمام من دون تردد». إلا أن تجاهل موغيريني الانتقادات والسخرية من موجهيها، لم يوقف الحملات الدعائية ضدها التي استعانت بميولها اليسارية لوصمها بصديقة الروس، وبقربها الشديد من الكرملين الذي كان السبب وراء عدم أخذها التهديد الروسي العسكري ضد أوكرانيا على محمل الجد، لكن كثراً من المحللين الأوروبيين لا يرون اختلافاً كبيراً بينها وبين أنغيلا مركل المستشارة الألمانية، الشيوعية السابقة، والقريبة أيضاً من الكرملين، ولا يعتبرون هذا القرب سوى نوعٍ من الديبلوماسية والأداء السياسي الرفيع، وربما يكون أخطر ما تعرضت له موغيريني هو ظهور تلميحات في وسائل إعلام متعددة إلى مصالح خفيّة تربطها بجماعات ضغط بارزة في شركة غاز بروم الروسية، وتفاقمت الشكوك بحقيقة هذه العلاقات عندما منحها الكرملين وسام الصداقة الروسية. موغيريني مولودة في روما عام 1973، في عائلة تنتمي إلى الطبقة الرفيعة في المجتمع الإيطالي. والدها مخرج سينمائي معروف. وزوجها هو السياسي الإيطالي ماتيو ريبيزاني الذي أنجبت منه طفلتين. درست العلوم السياسية في لاسابيينزا روما، وتعلمت الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والعربية، لتصبح في سن الحادية والأربعين وزيرة لخارجية بلادها، ولتنتقل بسرعة في خريف عام 2014 إلى منصب مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وهي الآن بصدد إكمال دراسة الدكتوراه في العلوم السياسية. عرفت موغيريني واشتهرت بنشاطها السياسي، وحرصها على المشاركة في الحملات المناهضة للعنصرية وكراهية الأجانب والإسلاموفوبيا في أوروبا. وبداية دخولها إلى معترك السياسة الخارجية الشائك حصلت عندما كانت عضواً في حزب «الديموقراطيون اليساريون» الذي خرج من رحمه الحزب الديموقراطي الحاكم الآن في إيطاليا، ومن ثم تولّت لاحقاً مهمة إدارة العلاقات مع الولاياتالمتحدة في حزب «الاشتراكيون الأوروبيون»، ومن ثم أصبحت نائباً في البرلمان الإيطالي في عام 2008، وعضواً في لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب. وفي عام 2013، ترقت لتصبح مسؤولة القضايا الأوروبية والدولية في قيادة الحزب الديموقراطي. عوالم موغيريني سيرة موغيريني اليسارية تكشف عن حرب لا هوادة فيها خاضتها وتواصلها الآن ضد العنصرية والتعصب وكراهية الأجانب في أنحاء العالم، فهي شاركت في حملات ضد التمييز من خلال المجلس الأوروبي في عام 2006، ومع أنها ناصرت القضية الفلسطينية، ونشرت صورتها مع الراحل ياسر عرفات، إلا أن ذلك لم يمنعها من الدفاع عن حق إسرائيل في حماية أمنها القومي وسلامة حياة مواطنيها ضد صواريخ غزة، لكنها دانت في الوقت نفسه قصف إسرائيل مدرسة ال «أونروا» في غزة واعتبرته انتهاكاً للقوانين الدولية، واعتبرت أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية عقبة في وجه السلام، من دون أن تصنّفها انتهاكاً للقوانين الدولية. وفاجأت الجميع في مؤتمرها الصحافي الأول في منصبها الأوروبي الجديد بالقول «أن العالم لن يتحمّل حرباً جديدة على غزة» فتهكمت عليها الصحافة بالقول: «في أي عالمٍ تعيش موغيريني؟». لعبت موغيريني الدور الأكبر والأهم في عملية إطلاق سراح المعارضة السودانية مريم إبراهيم التي حكم عليها بالإعدام بسبب اعتناقها المسيحية، وصعّدت من ضغطها على الأممالمتحدة عبر إثارة الملف مع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ودفعته إلى إدانة السلطة في الخرطوم. تخوض موغيريني معركة شائكة مع خصومها، وترد على انتقاداتهم إياها بعدم نضوجها السياسي وعدم تمتعها بالكفاءة والتجربة الكافية لإدارة السياسة الخارجية الأوروبية كونها لا تزال شابة بالقول أنها بلغت من العمر 42، وهي فترة كافية لاكتساب المعارف والتجربة السياسية، فضلاً عن أنها وزيرة خارجية دولة عضو في مجموعة الدول السبع الكبيرة، وتمارس المعترك السياسي الأوروبي والدولي منذ 20 سنة. تسونامي الإرهاب وشكوك القوة العظمى تظهر موغيريني نوعاً من التحدي الصامت لخصومها، وترد على المتربصين بحركتها السياسية بعزمها على «بناء سياسة خارجية أوروبية مشتركة فعلية لا شكلية». موغيريني لم تتلكأ أو تضطرب أمام تساؤلات الصحافيين المشاكسين حين حاولوا استفزازها متسائلين عما إذا كانت فعلاً رئيسة للديبلوماسية الأوروبية، فأجابت مبتسمة «في الواقع أنا شيء أكثر من ذلك»، وأضافت: «قد يبدو لكم الأمر غريباً، لكن في الواقع هذا ما ورد في عقود العمل»، وأكملت: «لا ينبغي أن يكون لديكم أي شك في أن الاتحاد الأوروبي سيصبح قوة عظمى». موغيريني مؤمنة بأن الاتحاد الأوروبي الذي يواجه أعاصير داخلية تزلزل كيانه الاندماجي وتسونامي إرهاب أصولي يكاد ينجح في تقويض منظومة قيمه الأخلاقية والثقافية والاندماجية، ما زال يمتلك كل الأدوات والوسائل الضرورية لمواجهة التحديات التي تتهدد وجوده وقيمه، وهو يتمتع بكل الشروط والإمكانات اللازمة لكي يواصل لعب دوره كقوة مقررة وحاسمة في الساحة الدولية، وتقول: «لسنا في حاجة إلى قرار من أي أحد لكي نمارس دورنا وعملنا على الساحة الإقليمية والدولية». رئيس المفوضية الأوروربية جان - كلود يونكر الذي لم يخف في البداية تردده في قبول موغيريني في طاقمه لخوفه من إمكان فشلها في مهمتها كمفوضة عليا للسياسة الخارجية، يبدو الآن أكثر ثقة في إمكاناتها وقدراتها الديبلوماسية، ويتضح ذلك في حرصه على أن تكون برفقته دائماً في الاجتماعات الدولية، فهي بعد مرور الأيام المئة الأولى على توليها منصبها، فرضت نفسها أحد اللاعبين الأساسيين في المفوضية الأوروبية سوية مع زميلتيها الدنماركية مارغريتا فستاغر مفوضة الشؤون التنافسية، والسويدية سيسيليا مالميستريوم مفوضة الشؤون التجارية. لا تكف موغيريني عن التأكيد وبحزم أنها ستواصل أداء واجباتها ومهماتها في منصبيها الأول رئيسة الديبلوماسية الأوروبية، ونائب رئيس المفوضية الأوروبية. وكثيراً ما تفاجئ موغيريني الصحافيين الأجانب المعتمدين في المفوضية بأفعال غير متوقعة وأحدها فجّر عاصفة من التعليقات المتباينة على «تويتر»، حيث قررت بعد توليها عملها بأيام معدودة ترك مبنى الدائرة الديبلوماسية الذي كانت تشغله المفوضة السابقة البارونة كاثرين آشتون، وانتقلت إلى مكتبها في مقر المفوضية، ويتحدث أفراد طاقمها عن حيويتها الفائقة وإدمانها العمل، إذ هي تشارك في جميع الاجتماعات وتنسق مع المفوضين الآخرين في المسائل التي تدخل في دائرة مهماتها وعملها وفي إطار صلاحياتها المنصوص عليها في نظام الاتحاد. وقال ديبلوماسي أوروبي ل «الحياة» أنها «أكثر نشاطاً وحيوية من آشتون»، وأضاف: «لا تتراجع موغيريني بسهولة عن موقفها عندما تحتدم النقاشات والخلافات داخل الاجتماعات، وهي على العكس قوية وحادة وإلى حد كبير متسلطة»، مستدركاً الإشارة إلى أنها «تظل قبل كل شيء عملية، حيوية وصاحبة رأي»، وهو ما يعوض برأيه «النقص في تجربتها السياسية». تواجه أوروبا تحديات جدية ومعقدة ناجمة عن الأحداث الدراماتيكية المتسارعة في العالم مع انتشار الإرهاب المعولم، وتداعيات وارتدادات نزاعات مسلحة خطيرة في العراق وليبيا وسورية ولبنان واليمن على أمنها القومي، عدا ما تشهده في عقر دارها من صراع خطير في أوكرانيا واقتراب دولها من التفتت، ودخول الغرب في حرب باردة جديدة مع روسيا التي قرر قيصرها الجديد تحويلها هذه المرة إلى ساخنة، وموجات لاجئين تشبه إلى حد ما هجرة الشعوب الجماعية في المرحلة ما بعد الحربين العالمتين الأولى والثانية، وما تسببه من نزاعات وتناقضات داخلية في البلدان الأعضاء، وبين بعضها بعضاً، تتجسد طلائعها الأولى في إعادة بناء الجدران العازلة بعد 25 عاماً على انهيار جدار برلين. لا يزال أمام موغيريني أكثر من سنتين لإثبات أنها جديرة بمنصبها الرفيع، وأداؤها عند الأزمات الدولية كفيل بإظهار مدى فهمها واستيعابها نصيحة وزيرة الخارجية أولبرايت، ويبقى أن نعرف عملياً ما إذا كان «اختيار الشخص غير المناسب لقيادة السياسة الخارجية الأوروبية، سيؤدي لا محالة إلى مشكلات فعلية في أوروبا»، وفق مركز بروكينغز الأميركي.