لا الراقصة الفلانية ستجول الملاهي الليلية الواقعة بين القاهرة والجيزة وما تيسّر من بقية المدن المصرية، ولا المطربة العلانية ستحيي حفلات ألف ليلة وليلة في كبرى القاعات الفندقية بأجور «خزعبلية» تساوي كلفة إعاشة صغار العاملين في الفندق لمدة عام كامل. ولا الفتاوى الموسمية أو وجهات النظر الوقتية ستقلق مضاجع البسطاء الذين اعتادوا الاحتفال بمشاهدة «مزز» (جمع مزة الكلمة المصرية الدارجة للإشارة إلى الفتاة الجميلة) العالم تحت سقف مسابقة ملكة جمال الكون أو العالم في هذه الليلة. ولا أشجار الميلاد البلاستيكية أو أشكال الزينة الورقية ستسبب في نقلة نوعية لصغار كبار تجار التجزئة. فليلة رأس السنة في مصر هذا العام مختلفة. ليلة رأس السنة الميلادية تأتي هذه المرة منخفضة الكلفة، أسرية المحتوى، متحدة الهوى، والأهم من هذا وذاك مصحوبة برغبة شعبية عارمة في كسر «قُلة» (وعاء فخار) وراء 2015، واستحلاف خليفتها أن تكون على قدر أكبر من الإنسانية والرأفة والرحمة والشفقة. أشفقت الموظفة على طفلتيها المتشوقتين للاحتفال، فاشترت قبعتي رأس بابا نويل التقليديتين بعدما أنهكت البائع وأرهقته لطول الجدال وعمق الفصال. ولولا انتشار تجار القبعات في أغلب الإشارات وبائعي روزنامات عام 2016 على الأرصفة، وتخلي عروس المولد النبوي التقليدية عن فستانها وظهورها ببدلة بابا نويل الحمراء، لنسى المصريون أو تناسوا أو أُجبروا على النسيان بأن عام 2015 يلملم أشياءه استعداداً للرحيل. «رحيل 2015 هو الحدث الأفضل في 2015». قالها كارم سعيد دون أدنى مظاهر للسعادة أو أي أثر للتنكيت. «هذا هو الحدث الأبرز والأهم والأحلى الذي طالما تمنيته. كان عاماً صعباً ثقيلاً قاسياً على المستويين الشخصي والعام. دخلي قل إلى النصف فأنا أعمل في تجارة الهدايا، وزوجتي فقدت عملها في قطاع السياحة والمنطقة تحولت إلى سيرك للاعبي داعش، والعالم يسير بخطى ثابتة نحو الجنون. أنا سعيد برحيل هذا العام». لكن للسعادة أوجهاً أخرى في ليلة رأس السنة. وجوه الجحافل الأسرية البسيطة التي تجتاز بوابات المراكز التجارية الكبرى مفعمة بالسعادة. وعلى رغم أنها سعادة الهروب الوقتي من واقع اقتصادي واجتماعي مر إلى واقع افتراضي أنيق ومرتب قوامه التجوال بين المحلات الراقية والتسوق بالعين والطواف حول شجرة عيد الميلاد الفارهة في البهو الرئيسية، لكنها تظل سعادة. ليس هذا فقط، بل إنها تسمح بتسرب السرور وتغلغل الحبور عنوة إلى القلوب المثقلة. الثقل الأمني الملقى على عاتق الأجهزة الأمنية هذه الليلة واضح وضوح الشمس. فمن خطة طوارئ أعلنتها وزارة الداخلية لتأمين الاحتفالات، إلى استنفار للقوات المرابطة في الشوارع أصلاً، إلى مزيد من الاحتياطات والتجهيزات تحسباً لمحاولة تفجيرية هنا أو تفخيخية هناك، تأتي احتفالات رسمية عدة الليلة بمثابة حملاً أمنياً مضاعفاً. فمن سفح الأهرامات إلى احتفالات في شرم الشيخ تجري الاستعدادات على قدم وساق أملاً في بث الحياة إلى جسد السياحة الملكوم. الكلمات المكونة لهاشتاغ «هتسهر فين في رأس السنة» ليست جوفاء. فيظل بين المصريين من يصر على تكبد عناء الخروج والسهر. البعض متمسك بالتجمعات العائلية، آخر حصون الاحتفالات منخفضة الكلفة ذات الابتكارات الاقتصادية بدءاً ب «طبق من كل مشارك» مروراً بالاكتفاء بشاي وقهوة وقرفة وسحلب، وانتهاءً ب «دليفري» شعبي قوامه فول وفلافل وباذنجان وبطاطا. لكن للشباب وجهة نظر مغايرة، حيث استعدادات واضحة على كورنيش النيل لنزهات على ظهر «فلوكة» بموسيقى شعبية أو مجموعة على النيل قوامها شيشة وشاي «في الخمسينة»، أو حفلة «على الواقف» في مركز تجاري ينظم حفلة غنائية لمطرب مشهور أو نصف مشهور. آخرون قرروا الاحتفال بقعدة في المقهى أو وقفة على الناصية، شرط عدم التطرق إلى السياسة، وذلك حتى يتأكد الجميع أن العام قد رحل وآخر قد حل. رأس السنة اليوم في مصر خليط من بهجة حذرة واحتفال اقتصادي وفرحة برحيل 2015 وتفاؤل مشوب بالرعب من 2016.