قذفت بي الأقدار لأحضر القمة العربية في مدينة سرت الليبية في آذار (مارس) الماضي. لذلك أسجل بداية أن الإجراءات التنظيمية والأمنية كانت أفضل بكثير من قمم عربية أخرى، وحاول الليبيون توفير سبل الراحة لكل المشاركين، بل إن القائد الليبي كان أشد حرصاً على أن يمر المؤتمر بسلام من دون مفاجآت معتادة أو مواقف حادة، وأستطيع أن أقول باطمئنان إن تلك القمة قد عكست آلام الأمة واتسمت بدرجة عالية من الشفافية وتعرية الواقع من دون تزييف أو ادعاء، فلقد بدأ أمير دولة قطر الجلسة الافتتاحية بحديث واضح عكس ما يشعر به من مرارة نتيجة عدم القدرة على تحقيق المصالحة العربية في فترة رئاسته القمة العربية، إلى جانب دعوته الى تشكيل لجنة تساعد رئيس القمة مستقبلاً على أن يتولى رئاستها أمين عام الجامعة، ثم التقط القائد الليبي الخيط بوضوحه المعتاد وصراحته المعهودة فعكس الواقع العربي بعد مقدمة عن مكانة مدينة سرت التي ينتمي إليها وتاريخها النضالي ضد الإيطاليين واستشهاد أحد أجداده دفاعاً عن التراب الليبي حينذاك. وعلى رغم وجود رئيس وزراء ايطاليا سيلفيو برلوسكوني إلا أن القائد الليبي داعبه بصورة تمتص تأثير حديثه عن تلك الحقبة التاريخية التي اعتذرت عنها إيطاليا أخيراً في سابقة نرجو أن تحصل دول عربية أخرى على مثلها باعتذار فرنسي للجزائر وبريطاني لمصر وغيرهما من الدول العربية التي نهبها الاستعمار وداس ترابها وحاول أن يسحق كرامة شعوبها. وامتد حديث القائد الليبي في مكاشفة جلية حتى انه قال معقباً على خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) إن الأجيال الجديدة سوف تتمرد على حكوماتها معلناً غضب الشارع العربي وتوتر العلاقة مع قياداته، ثم جاء خطاب الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى قوياً وموضوعياً وكاشفاً عرض فيه الأمين العام الوضع العربي في مجمله وبشر بقرب موت عملية السلام وقدم اقتراحاً للعلاقة مع دول الجوار، تركيا وإيران وبعض دول شرق أفريقيا، بل ودعا إلى عضوية دولة تشاد الأفريقية في الجامعة العربية حيث إن دستورها ينص صراحة على أن العربية هي لغتها الرسمية، ولم يخفِ الأمين العام استياءه من حالة التردي العربي التي انعكست على الجامعة فلم يصلها الدعم المادي والتأييد السياسي المطلوبان، كما عبر عن ضيقه الشخصي أيضاً عندما ألمح إلى اكتفائه مبدئياً بالفترة التي قضاها في موقعه. وفي ظننا أن قمة سرت بما أحاط بها من جو الإحباط ومظاهر الواقعية السياسية والتشخيص الأمين للوضع العربي الراهن كانت قمة فارقة يمكن أن نبني عليها وأن ننطلق منها. والآن دعونا نسجل الملاحظات الآتية: أولاً: تقدّم رئيس الجمهورية العربية اليمنية الرئيس علي عبدالله صالح باقتراح لإنشاء الاتحاد العربي وبدا من عرضه لذلك الاقتراح أنه قد توافق فيه مع القائد الليبي من قبل، حتى أن رئيس المؤتمر أعطى الرئيس اليمني الكلمة بصفة استثنائية لأن الكلمة لم تكن مدرجة في جدول أعمال الجلسة الأولى، وقرر الرئيس إعطاءه فرصة الحديث نظراً لقرب مغادرة الرئيس اليمني المؤتمر والعودة الى بلاده بسبب الظروف الداخلية هناك. وفي ظني أن هناك تنسيقاً بين عدد من الدول العربية حول الانتقال بجامعة الدول العربية إلى اتحاد عربي على غرار ما حدث من انتقال منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي، ونحن نتفهم المشروع المبدئي للرئيس اليمني في هذا السياق. ثانياً: بدا واضحاً في أروقة المؤتمر بل وقبل عقده أن هناك أفكاراً جديدة حول إصلاح الجامعة يقبع الجزء الأكبر منها في رأس الأمين العام وتتداول الدول أفكاراً أخرى حول الموضوع نفسه، ولقد حظيت مسألة تدوير منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية باهتمام كبير على رغم أن العرب هم أنفسهم الذين كرسوا قاعدة التلازم بين دولة المقر وشخص الأمين العام حتى أن الجامعة عندما انتقلت إلى تونس في أعقاب سياسات كامب ديفيد اختاروا لها أميناً عاماً تونسياً هو الشاذلي القليبي. وأظن أن الجزائر واليمن ومعهما ليبيا وقطر وربما دول عربية أخرى هي التي تتبنى اقتراح تدوير منصب أمين عام الجامعة العربية. ثالثاً: افتقدت جلسات المؤتمر غياب العاهل السعودي والرئيس المصري وملك المغرب وسلطان عمان ورئيس دولة الإمارات العربية وملك البحرين وغيرهم من القيادات العربية لأسباب تتعلق بظروف كلٍ منهم على حدة، وإن كنت أظن أن نصاب الحضور في قمة سرت لا بأس به في مجمله على رغم الظروف العربية الشائكة وتأخر المصالحة المنتظرة. رابعاً: شعر الكثيرون – وأنا منهم – أن علاقات القاهرة ودمشق، وهي علاقات أزلية ومهمة، مرشحة لأن تعود إلى طبيعتها في القريب، ولقد جمعني لقاء عابر بالديبلوماسي المخضرم وزير خارجية سورية وليد المعلم، وهو زميل دراسة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة في أوائل ستينات القرن الماضي، وشعرت من حديثنا بالروح الجديدة التي تعيد إلى العلاقة المصرية السورية وهجها وتألقها. خامساً: خامرني شعور بأن دول المغرب العربي قد سئمت إلى حد كبير الوضع العربي الراهن وتدهوره المستمر وسياسات المشرق المتراجعة، فلزم الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة مثلاً الصمت في معظم جلسات المؤتمر شعوراً بحساسية الظروف وتعقيداتها، وأنا أحسب أن الأشقاء في المغرب العربي بحكم اقترابهم من أوروبا الغربية هم أول من يلحظ تراجع الدور العربي وانعكاس ذلك على القضية الفلسطينية. سادساً: تمخضت قمة سرت العربية عن إعلان قيام البرلمان العربي الذي أتشرف بأن أكون نائباً لرئيسه وإن أعطى مهلة عامين قادمين لاستكمال البنى القانونية والأشكال التنظيمية لذلك البرلمان الوليد وهذه إيجابية تحسب للقمة العربية في مارس 2010. سابعاً: لم يتحمس القادة العرب كثيراً لاقتراح الدعوة إلى قمة ثقافية عربية أسوة بالقمة العربية الاقتصادية التي عقدت في الكويت عام 2009، وكانت "مؤسسة الفكر العربي" قد سبقت غيرها الى ذلك الاقتراح الذي تقدمت به شخصياً في مؤتمر المؤسسة بمدينة بيروت في صيف عام 2009 ولقي قبولاً مبدئياً من عدد كبير من المفكرين العرب والمثقفين في المنطقة، ولكن القمة لم تشعر أن لهذا الأمر أولوية في ظل الظروف الخانقة للصراع العربي الإسرائيلي. ثامناً: استأثرت الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالاهتمام الرئيسي لجلسات المؤتمر، فالعدوان الإسرائيلي على المقدسات الإسلامية سواء الحرم الإبراهيمي أو الأقصى المبارك قد تزايدت حدته وبلغ درجة لا يمكن السكوت عنها وأصبحنا أمام تحديات غير مسبوقة من الدولة العبرية العنصرية العدوانية التوسعية كما أن محاولة تهويد القدس وتقويض أركان المسجد الأقصى هي كلها جرائم مستمرة تدعونا إلى دعم المقدسيين والوقوف إلى جانبهم. تاسعاً: كان خطاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بمثابة إعلان جديد يكشف عن التحول الايجابي للموقف التركي تجاه القضية الفلسطينية مع إدانة صريحة لجرائم إسرائيل على نحو غير متوقع من دولة مثل تركيا، وهي التي احتفظت بعلاقات استراتيجية طويلة مع إسرائيل. عاشراً: يبدو أن القضية الفلسطينية مرشحة للعودة إلى المربع الأول بحيث تأخذ طريقها نحو مجلس الأمن بعد أن فشلت عملية السلام تقريباً وأصبح الاحتكام إلى الأممالمتحدة، باعتبارها ضمير العصر، أمراً طبيعياً لا بديل أو مناص منه. لقد عكست الملاحظات العشر التي أوردناها طبيعة الروح التي سادت قمة سرت وما تمخضت عنه من أفكار وآراء ومواقف، وإذ أسميها "قمة الشفافية" فإن ذلك يرجع إلى حجم نقد الذات الذي وجهه المؤتمرون إلى أنفسهم في شجاعة ووضوح. لذلك فإنني لا أخفي ذلك الأمل الدفين الذي تولد لدي بعد قمة سرت لعلنا نبدأ طريقاً جديداً يعلي من قيمة المقاومة ويقدر مشاعر الأمة ويحفظ لها أرضها ومقدساتها ويقف في عناد أمام مخططات إسرائيل التي لا تتوقف، وجرائمها التي لا تنتهي. * كاتب مصري