يتجنب الوسط السياسي والأمني في العراق مواجهة الوقائع في الأمن ومصادر العنف، ويتم التعتيم على حقائق ومعطيات بالغة الحساسية هي ضرورية اليوم لإعادة تعريف التطور الأمني عام 2008 الى منتصف عام 2009 ومن ثم عودة التدهور من ذلك التاريخ الى اليوم. والاتفاق الجماعي العراقي على التمسك بتدعيم الأمن والمخاوف من استعادة نكسة الحرب الطائفية الدامية، برر الى وقت طويل تجنب الخوض في تفاصيل الوضع الأمني وطبيعة حراك تنظيم «القاعدة» الذي طرد من مناطق نفوذه السابقة وكان قاب قوسين أو أدنى من الاندحار في شكل كامل، لولا توجه السياسيين العراقيين الى استثمار هذا التراجع لتحقيق تصفيات داخلية مكلفة أمنياً، وإعادة زرع الأجواء الملتبسة حول مصادر العنف ومنطلقاته وأهدافه ما يهدد بإحداث انتكاسة حقيقية. إطلالة لا بد منها والمدخل الموضوعي الذي كان حاضراً عام 2007 على المستوى الرسمي والشعبي في العراق لفهم العنف وتعريفه كان يؤشر لمنظومتين مسلحتين رئيستين هما «تنظيم القاعدة» ومجموعات ذات تركيبة مذهبية متطرفة مرتبطة به وتنشط في المدن ذات الغالبية السنية، مقابل مجموعات مسلحة ذات منهج مشابه تنشط في المدن الشيعية مثلها مسلحون انشقوا عن «جيش المهدي» أو عملوا داخل هيكلياته ومسلحون تابعون لأحزاب أخرى اخترقت المنظومات الأمنية الرسمية واستخدمتها في عمليات انتقامية. وتوازن الرعب هذا رفع طرفاه شعار مقارعة الاحتلال وكانا في الواقع يمارسان القتل اليومي والتهجير بحق العراقيين على أساس مذهبهم. ولأن اللعبة بالغة التعقيد فهم الأميركيون، أن تدخلهم لن يقود الى نتيجة ناهيك عن انه قد يقود الى خسائر بشرية باهظة في صفوفهم تزيد من تدهور سمعة إدارة الرئيس السابق جورج بوش التي كانت في أسوأ حالاتها عام 2006. والاستراتيجية الأميركية التي تأخر تطبيقها حتى بدايات عام 2007 كانت تقوم على إحداث انتفاضة داخل المنظومات الاجتماعية التي تعد ملاذات للمسلحين وبؤراً لاستيطانهم فكانت انتفاضة «مجموعات الصحوة» في المدن السنية، وكانت عمليات مزدوجة شملت أولاً تطهير أجهزة الأمن من عناصر الميليشيات ومن ثم إفقادهم مناطق نفوذهم في المدن الشيعية. والحقيقة أن المهمة الثانية لم تكن لتنجح من دون ظهور بوادر نجاح الأولى، فكان مبرراً تأخير إحداث الانتفاضة على المليشيات حتى عام 2008. لكن... بأي أدوات يمكن تنفيذ هذا المخطط؟ في وقت يفتقر الجانب السني الى أي وجود للدولة أو مؤسساتها، والمدن السنية اقتسمتها مجموعات مسلحة مختلفة ومتباينة فيما المدن والمناطق الشيعية يقتسمها عناصر ميليشيات وهؤلاء بدورهم يتبعون أحزاباً مختلفة ومتباينة أيضاً؟ الإجابة كانت حاضرة، لكنها لم تكن أميركية المصدر، فالخبرة العراقية الفطرية في التعامل مع الأمن، والنصائح البريطانية ذات التجربة العميقة في التعامل مع واقعة الاحتلال، كانت مصدراً للنصيحة الذهبية: «لا يحارب المسلحين إلا مسلحين من نظرائهم يتم استقطابهم برعاية منظومة حفظ الأمن التقليدية ذات الطابع المناطقي والعشائري». وإنجاز مهمة مجموعات «الصحوة» كانت تتطلب تعهدات أميركية الى مجموعات مسلحة محلية بحفظ مستقبلها مقابل الانقلاب على تنظيم «القاعدة» ووضع وجهاء الأحياء السنية وزعماء العشائر أمام خيار المواجهة أو الاتهام بالتعاطف مع «القاعدة». كما أن الانقلاب على الميليشيات كان يتطلب إشراك أحزاب تمتلك ميليشيات هي الأخرى وتضامناً سياسياً ضد طرف شيعي واحد لمنع انهيار الأجهزة الأمنية التي عليها القيام بعمليات مسلحة جريئة. المجموعات المسلحة السنية والشيعية والعشائر والأحزاب هي من أنجز المهمة بنجاح نسبي عام 2008، لكن تطورات حصلت لاحقاً كانت تنذر بتغير مسارات الخطة. الانقلاب على المنتفضين! نتائج العمليات ضد «القاعدة» والميليشات ظهرت بوتيرة متسارعة. بدت القوات الأمنية العراقية أكثر تماسكاً وثقة، وكانت ترتيبات المهمة تعتمد على تحول عناصر «الصحوة» وميليشيات الأحزاب ومجالس الإسناد في الجنوب الى نواة لنظام استخباري محكم وصلب وواسع الانتشار ومرتبط بمصير الأمن والقانون الذي يطوق إمكانية عودة نشاطات المسلحين. لكن أجواء الثقة في النفس التي كانت مطلوبة لدى الأجهزة الأمنية وساهمت في استعادة ثقة الشارع العراقي بها وبحيادها المذهبي على الأقل، تحولت الى ثقة سياسية مفرطة لدى الحكومة ولدى «حزب الدعوة» الذي قاد الحكومة فعلياً في تلك المرحلة وبعدها. والاستثمار السياسي الفردي المبالغ فيه للإنجاز الأمني كان بمثابة طعنة للأطراف السياسية والمسلحين السابقين الذين تضامنوا في لحظة تاريخية نادرة لإحداث الخطوة الكبيرة. نجح «حزب الدعوة» في حصر الإنجاز الأمني إعلامياً بشخصية زعيمه نوري المالكي، والأخير بدوره حمل هذا الحزب على الانتقال الى دور ريادة الوسط السياسي الشيعي ومن ثم اكتساح انتخابات المحافظات، لكن هذه النقلة الإعلامية والشعبية رافقتها عملية انعزال عن الأطراف السياسية التي ساعدت في تحقيق الإنجاز الأمني في جنوب العراق يتقدمها «المجلس الإسلامي الأعلى» الذي كان في مرحلة الحرب على الميليشيات يسيطر على مقاليد الأمور في حكومات الجنوب العراقي وساهم في شكل مفصلي عبر أجهزته في رفد الجهد الأمني في الجنوب بمصادر قوة لم يكن «حزب الدعوة» ليحققها منفرداً. وانتقال العلاقة بين «المجلس» و «الدعوة» من التحالف لدرجة تشكيل مكتب سياسي مشترك الى التناحر، رافقته مرارة قيادات في المجلس لتحول المالكي وحزبه الى الاستئثار بالإنجاز الأمني واستثمار هذا الإنجاز على الأرض عبر استقطاب قواعد المجلس الشعبية وحتى تنظيماته الثانوية في المدن الشيعية والبدء بإجراء تغييرات في المنظومة الأمنية، قبل الانقضاض عليه سياسياً في انتخابات المحافظات وانتزاع قواعد نفوذه العريضة في الجنوب. شعر قادة المجلس الأعلى بأن مدن الجنوب بدأت تنظر إليهم باعتبارهم جيلاً معرقلاً لحركة التحديث والتطوير الشيعية التي أعلن المالكي التصدي لها على المستوى الفكري وفي إدارة الدولة عبر مصطلح «دولة القانون»، فكانوا مضطرين عملياً للانتقال من صف الموالاة الى صف المعارضة لمحاولة استعادة ثقة الشارع والتحضير لجولة الانتخابات التشريعية، وتقدموا لاستمالة تيار الصدر الذي كان اعتبر «المجلس» و «الدعوة» متحالفين ضده في الحرب على الميليشيات. المالكي بخسارته «المجلس الأعلى» سمح عملياً بوضع إسفين في قلب منظومة الأمن في الجنوب العراقي عبر القبول بالإنجاز الأمني إعلامياً والتخلي عنه استراتيجياً وتلك الثغرة قدمت التناحر الشيعي – الشيعي كهدية نموذجية الى طهران التي بدأت تسمع لهجة عراقية شيعية مختلفة وغير متوقعة حول نفوذها في العراق ودعمها مجموعات مسلحة. كما أن عدم اعتماد الحكومة سياسات منهجية بقصد استمالة تيار الصدر بعد هدوء المعارك الكبيرة، عبر إطلاق شبكة مصالحات شيعية – شيعية برعاية الدولة سمح بدوره باستمرار مشاعر التهميش والإقصاء لدى هذا التيار الذي كان يحكم قبضته على الأمن في الجنوب ولو بطريقة عشوائية ليجد اتباع التيار أنفسهم مطاردين ومعرضين للاعتقال أو الإعدام، وكانت إيران الى الشرق المنفذ الوحيد لهم، والأخيرة لم تتردد في احتضان هؤلاء وتحويل بعضهم الى مجموعات مسلحة جديدة، وأيضاً أداة ضغط على الأحزاب الشيعية التي كانت بدأت تتخذ مواقف أكثر استقلالية. إنهاء الصحوة كانت الحكومة العراقية تنظر بريبة الى «مجالس الصحوة» في المناطق السنية منذ بدايات تشكيلها، وتلك الريبة دعمها قادة الجيش والشرطة الذين لم يستسيغوا مشاركة النفوذ الأمني مع ميليشيات غير نظامية كان عناصرها يقاتلونهم حتى وقت قريب، على غرار ما فعل الجيش الأميركي. تمت أولى بوادر تحطم «مشروع الصحوة» عبر الضغط المالي بتأخير صرف مرتباتهم، ومن ثم المساومة على إعداد المقاتلين الذين يحق لهم الانضمام الى الأجهزة الأمنية ومن لا يحق لهم ذلك، قبل أن تتحول العلاقة مع «الصحوة» الى مطاردة مستمرة حتى اليوم لقادتها وعناصرها باتهامات تعود الى ما قبل الضمانات الأميركية بحماية مستقبلهم. وجد الكثير من عناصر «الصحوة» ومعظمهم من ضباط الجيش السابق ومن عناصر مجموعات مسلحة اشتركت في القتال سواء ضد القوات الأميركية أو حتى الأجهزة الحكومية وبعضهم كان ضمن تنظيمات «القاعدة» وأعلن توبته وحارب هذا التنظيم، أنفسهم أمام خيار الاعتقال والمحاكمة اليوم أو غداً، وتلك الأجواء كانت مثالية لتنظيم «القاعدة» الذي كان قد تقهقر في شكل لافت وفقد معظم إمكاناته بين عامي 2008 و 2009 لإعداد مخططات جديدة في ضوء واقع الانقلاب الحكومي المتوقع على «مجالس الصحوة». سارع تنظيم «القاعدة» الى تركيز جهوده ضد عناصر «الصحوة» لمحاولة إعادة استقطابهم عبر الترغيب وإعلان «المصالحة» على لسان زعيمه أبو عمر البغدادي أو التهديد «وتنفيذ عمليات انتحارية كبيرة ضدهم وضد عائلاتهم طوال عام 2009». ضغوط وتهديدات «القاعدة» والأجهزة الأمنية انتزعت أهم مهمة مستقبلية لمجالس «الصحوة» بأن تتحول الى أكبر منظومة استخبارية في المناطق السنية لمنع إعادة نشاط «القاعدة». التباس الخطاب الأمني مع تداخل الإنجاز الأمني بالتناحر السياسي برزت في تلك المرحلة بقوة طروحات جديدة حول تعريف العمليات المسلحة عبر إضافة كلمة «البعثيين» الى «عناصر القاعدة» فأصبحت الاتهامات الحكومية والحزبية تتحدث عن حلف «بعثي قاعدي» ومن ثم الى مسؤولية «البعثيين» عن الهجمات. وعلى رغم ما يبدو على هذا المصطلح من بساطة في الاستخدام لجهة وضوح مقاصده السياسية، إلا أن نتائجه على مستوى التداول الإعلامي خطيرة جداً. فالاستخدام المفرط والتعميمي لمصطلح «البعثيين» وضع نفسياً أكثر من 4 ملايين بعثي عراقي سابق في دائرة الاتهام!. وبالطبع لا يمكن تفسير هذا المنحى الخطير للخطاب الإعلامي الحكومي والحزبي ب «الجهل» بآليات الخطاب الجماهيري في أوقات الأزمات الكبيرة، لكن نتائجه على أية حال ولدت أجواء عدم ثقة بنيات الحكومة والأحزاب المقربة منها، ليس فقط لجهة انقلابها على «الصحوة» وتهديدها وظائف كبار الموظفين الحكوميين، بل يمتد الأمر بالدرجة الأولى والأكثر حساسية الى إمكان الانقلاب على نسبة 80 في المئة من ضباط الأمن والجيش والشرطة والاستخبارات. وهؤلاء لم يكن أي منهم ليصبح ضابطاً في العراق قبل عام 2003 من دون أن يكون عضواً في حزب البعث، فيما خدم الكثير منهم في الجيش والشرطة إبان حكم النظام السابق ووصفوا بأنهم أذرعته لكسب معركة البقاء. هذا التهديد الذي غذاه الخطاب الإعلامي للحكومة العراقية ولعدد من الأحزاب زرع ثغرات كبيرة في الجدار الأمني الذي شيد بتضافر تضحيات كل هذه المفاصل للتضامن على طرد تنظيم «القاعدة» والميليشيات. والحديث المتداول في الأوساط السياسية اليوم عن «وجود اختراقات في صفوف الأجهزة الأمنية» هو في جوهره امتداد لجوهر الخطاب الملتبس الذي وضع أجهزة الأمن أمام واقع عدم الثقة بالمستقبل وانتظار الإقصاء لأي خلاف أو منافسة داخلية تحت ذريعة الانتماء السابق الى حزب البعث والخدمة في ظل نظام صدام حسين. وفيما كان القضاء على «الصحوة» مناسبة لاستعادة «القاعدة» مخططات العودة الى الشارع وإيجاد منافذ الدخول الى المشهد الأمني وتحطيم إنجازاته، كان الخطاب الإعلامي الملتبس مناسبة لعودة «حزب البعث» كتنظيم وقيادات من الموت السريري مع فشل التجربة البعثية في العراق بكل المقاييس عبر السياسات التي قادت في النهاية الى الاحتلال. وسواء كان هناك تحالف بين «حزب البعث» و «القاعدة» بحسب الخطاب الحكومي أم لم يكن، فان النتيجة في النهاية واحدة لجهة تقويض التضامن العراقي - العراقي لإيقاف العنف. خطوات في الفراغ مع نمو كل هذه المعطيات كانت مهمة بناء الأجهزة الأمنية شاقة، وكان من شروط تحقيق التطهير داخل الأجهزة الأمنية جمع الصلاحيات الأمنية في شخص رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. تأسيس قيادة عمليات بغداد وقيادات عمليات المحافظات كانت الخطوة الأولى لجمع الشرطة والجيش في منظومة أمنية واحدة يضاف إليها منظومات الأمن الوطني والأمن القومي وجهاز مكافحة الإرهاب والاستخبارات. المالكي لجأ مضطراً الى هذه الخطوة للسماح بتحقيق تكامل أمني في مرحلة بالغة الحساسية. لكن هذه المنظومات سرعان ما أصبحت عبئاً على الأمن، عندما سمح تعدد المؤسسات الأمنية وعدم وجود رابط واضح بينها، بإيجاد خروقات في صفوفها. شعر كل من وزير الداخلية ووزير الدفاع انهما لا يتحملان مسؤولية مباشرة عن أي اختراق، فالقرار الأمني بيد المالكي شخصياً وترتبط به منظومة القيادة العامة للقوات المسلحة التي ترتبط بها قيادة عمليات بغداد وقيادات عمليات المحافظات. هذا الواقع انعكس في الإجابات التي قدمها الوزيران خلال جلسة استجواب برلمانية صريحة أعقبت تفجيرات آب (أغسطس) الماضي التي فتحت الباب للعمليات ذات التأثير النفسي والإعلامي الذي يهدد بتصدع الجدار الأمني. لكن التعددية الأمنية كانت أسهمت بالإضافة الى ذلك في تباطؤ عملية بناء الشرطة والجيش كمؤسستين مختلفتين في تكتيكهما وتسليحهما وأهدافهما. والتداخل بين القرار العسكري والقرار الأمني عبر منظومة «قيادة العمليات» صاحبه تداخل آخر بين المنظومات الاستخبارية التي تصدت لها وزارة الأمن الوطني في مقابل جهاز الاستخبارات وأيضاً أجهزة الاستخبارات الخاصة بكل وزارة وتنظيم أمني، فيما كان جهاز مكافحة الإرهاب يعمل هو الآخر بمعزل عن كل هذه التنظيمات. نظرياً كانت منظومة «مكتب القائد العام للقوات المسلحة» هي الجهة التي تعود إليها ليس فقط مهمة ضبط التضارب بين المؤسسات الأمنية، بل أيضاً التنسيق في الجهد الاستخباري بين هذه المؤسسات والوزارات لإصدار القرار الأمني. لكن الشبكة الاستخبارية الواعدة التي كانت توفرها عناصر «الصحوة» وعناصر الأحزاب المتعاونة مع الحكومة ضعفت وتراجعت وتهشمت على وقع الصراع السياسي الداخلي، مع أن الجميع يتفق على أن المعركة الأمنية في العراق هي معركة استخبارية بامتياز ولا تتعلق مفصلياً بنشر نحو مليون ونصف مليون عسكري ورجل شرطة في الشوارع. محصلة منهجية مراجعة المرحلة الأمنية السابقة وقراءة كبواتها بموضوعية، يتطلب بالدرجة الأساس رؤية تضامنية من قبل الجميع أحزاباً ونخباً ووسائل إعلام، لمنع انهيار الوضع الأمني واستعادة مكامن قوته التي فقدت، وقبل كل ذلك الاتفاق على تكريس سياسة الاطمئنان على المستقبل ليس في أوساط الأجهزة الأمنية والصحوات والميليشيات والأحزاب وصولاً الى بناء علمي ومهني للأجهزة الأمنية، بل قبل كل ذلك بث الثقة في الشارع العراقي الذي يزداد قلقاً من عودة العنف.