حقيقُ النصوص التراثيّة مناسبةٌ للإطلالة على الماضي، والنظر إليه عبر نافذة الحاضر وأفكاره، إذ ثمة نوع مخفيّ من القياس يدور بين قطبين: يقول الأوّل إن ما مضى كان أفضل، لكننا لم نرثْه جيداً. ويقول الثاني إن ما مضى مضى، لكننا نرثه عندما نقوم بوضعه في سياقه، فالنظر إليه يمرّ عبر نافذة المعرفة لا الحنين. والظنّ أن تحقيق الناقدين السوريين كمال أبو ديب ودلال البخش ل «ديوان التدبيج: فتنة الإبداع وذروة الإمتاع» – الصادر عن دار الساقي ودار أوركس للنشر- الذي كتبه الأندلسيّ عبد المنعم الجِلياني الأندلسي (توفي في 603ه.)، يقعُ في منطقة وسطى بين القطبين. فالديوان الفريد بجمال شكله وروعة رسومه وابتكاراته التزينيّة، يُشيرُ إلى ذكاء الطبيب عبد المنعم أكثر مما يُشير إلى ملكة الشعر لديه، ولعلّها رقيقةٌ تحفّ بها الصنعة والتكلّف وتدور في فلك المديح الذي يفقد صدقيّته جرّاء المبالغة والغلو: «فتىً أحكمت منه الأمورَ عوائدٌ/ نفذْنَ فلم تحكم عليه عوائقُ/ أليس المليكُ الأشرفُ الفردَ في الندى/ وللرزق فتّاحٌ وللنّكرِ غالقُ؟». فالممدوح في هذه القصيدة الناصر صلاح الدين. وفي قصيدة أخرى ابنه عماد الدين: «للملك سرٌ كما سرّ النبوة في/تخصيص عبدٍ بما لم يؤتَ إنسانُ/ عناية من إله العرش مظهرةٌ/ في الجزء ما الكلّ عن معناه عميان». والظنّ أن لا فرق جوهريّاً بين صورتي الناصر وابنه في قصيدة مدارها المدح الذي يسبغ على الممدوح نكهة تقديس، وكيف لا؟ والديار الشاميّة وقتها تتعرض للغزو الصليبي. ويبدو أن شعراء ذلك العصر نظموا قصائد شتّى تدور في فلك مدح القادة وربط صورتهم بهالة من التقديس، ووصف المعارك والحروب، وغيرها من المواضيع التي تُعطي هذا اللون من الشعر طابعاً تحريضياً وظيفياً. ولم يخرج الطبيب الجلياني، الذي كان رحل عن جِِليانة الأندلسية (من أعمال وادي آش في غرناطة) واتجه إلى المشرق، واشتُهر بمدح صلاح الدين والتكسب أيضاً، عن ذلك، إذ يقول عند النصر: «العزمُ ينفذُ ليس البيضُ والسمرُ/ تلك العزيمة منها هذه الأثرُ/ فتحٌ يضيّقُ صدرَ الكفر شارحه/ صدرُ الهدى فالتقتْ بُشراه والنذرُ». دأبُ ديوان التدبيج هذا، كدأب جلّ الكتب التراثية؛ يجمع النثر والشعر بين الدفتين، فلا شيء فاصلاً بينهما من ناحية المضمون أو المعاني، فالنثر الممتلئ بالسجع حدّ الثمالة، يميلُ أيضاً صوب المدح: «وجب علي أن أصوغ لذكره المنداح حِليةً لم يُرَ مثلها في الأمداح». وما لم يُرَ مثله حقاً ليس الشعر كما يطيبُ للجلياني أن يقول، بل هو هذه الرسوم الجميلة، التي وجدت هوىً في نفس الناقد والمحقق أبو ديب، فمنها ما يشبه شكل الشجرة بأغصانٍ وأغصانٍ، ومنها ما يشبه شكل السجادة، ومنها ما يشبه شكل الصدفة أو حتّى رقعة شطرنجٍ كبيرة وغيرها، على نحوٍ تكشف فيه هذه الأشكال إنها الأصلُ الذي نُظمت، للاتفاق مع ثناياه وزواياه، تلك المنظومات، التي يجبُ بذل جهدٍ لقرائتها، من خلال السَير وراء نهر الكلمات المحدّد بضفاف الخطوط والأشكال والألوان المختلفة. وقد خبر الناقد السوري طرائق قراءتها، واكتشف من خلال القراءة التي تتمّ باتجاهات مختلفة، وتتبع الألوان، قصيدةً رائية مفقودة، فأثبتها: «خيرُ ابتداعِ مملكٍ بسْطُ الندى/ وسياسة العدل المشاع الأظهر». ولعل جمال الأشكال والرسوم في ديوان الجِلياني، يشغل الواجهة، أمّا الخلفية فيشغلها الشعر، ويعود ذلك إلى قدرة الطبيب الجِلياني، وقد لُقب بحكيم الزمان، على النظم الجيد لا الشعر البديع. فالنظم هو ما تتيحه إيقاعات الشعر العربي، التي ترتدي تارةً ثوبَ القصيد (ذا الشطرين المقفّى) وتارةً أخرى ثوب الموشح أو الدوبيت أو غيرها من الأشكال الشعريّة. لكن الإيقاع وحده لا يصنع الشعر، بل لعلّ من فضائله أنه أعان الناقد أبو ديب على إيجاد تلك الرائية المفقودة. فقصائد الجيلاني باهتة لا حياة فيها، تدور في فلك معانٍ مطروقة، وتسير في دروب معبّدة، ويسهل على العارف بالشعر العربي أن يرى تقليد الجلياني غير الموفق لأبي تمّام والمتنبي تمثيلاً لا حصراً. وهذا النقص في التخييل الشعري والقدرة على اجتراح المعاني وخلقها، يقابله تضخمّ «الأنا» لدى الجلياني، فيكتب عن صنيعه: «إن جميع هذه الدواوين والكتب ليس في شيءٍ منها كلمةٌ من كلام أحد غيري، بل كلّها ممّا علّمني ربّي فنوّر بصيرتي، وأنطق بالعبارةِ عنه مِقْولي». ولا شكّ في أن نظرة الجِلياني إلى نفسه تشوبها هالةٌ من التقديس، أو لعلّه احتمى بالربّ القدير، ليمنع أي نقدٍ لمضمون قصائده. لا بل إنه لم يتورعْ عن أن يقسّم القرّاء إلى قسمين؛ الذي يفهم والذي لا يفهم! فقد كتب الجِلياني في ذلك: «وسميّتها مدبّجة نظم الجواهر بالثناء الزاهر، تتضمن من بديع الكلام ما فيه عبرة لذوي الأحلام، الذين ينفذون بالإلهام ولا يقفون مع الأوهام. وأمّا أهل الجهالة فقاصرون مستقصرون لغايات ما أدركه المستبصرون. فكم مدّعي بلاغة لا يرى من هذه الديباجة إلا أصباغها، عاجزاً عن قراءتها، فكيف له أن يذوق مساغها. وذو البصيرة يتدبّر بدعة صوغها، فيُكبِرُ صنعة من صاغها». ويلفتُ هذا الكلام النظر حقّاً، فالجِلياني يرفض أي نقدٍ ولا يرضى بأقل من المديح والإكبار. وليس رفض النقد على هذا النحو، ورمي القراء بسوء الفهم إلا الوجه الآخر لتضخمّ الأنا المترافق لزوماً مع قلة الصنعة ورقتها، فالذي ينظّر لنفسه ويكيلُ المديح لصنيعه، ويرفض النقد والقارئ على السواء، لن نجد ذِكراً له عند علماء اللغة، قدر ما نجده لدى المؤرخين وأصحاب التراجم، بمعنى أن النقد التأريخي يذكره، خلافاً للنقد التحليلي الذي يعزف عنه غالباً. كذلك، فإن الجِِلياني لا يعجبه أن يكون ل «ابتكاره» سابق أو شبيه، ويرغب في أن يكون «الأوّل»، لذا يطرد الحريري (516 ه) الذي كان أوّل من ابتكر هذه الطريقة من «مملكة الشعر»، وينظم في ذلك قائلاً: «فما الحريري زعيماً بها/ ولا البديع المنتقى قبلهُ/ أقصى مجال الشعر أدنى مدا/ ها فامرؤ القيس بها أبلهُ/ سحر بيانٍ مبطلٌ سحرَ من/ ألقى إلى معجِزها حبلهُ». أمّا الناقد السوري كمال أبو ديب، فقد أصاب في تحقيق هذا الديوان وعلى هذا النحو بالذات، فالطباعة الفاخرة الأنيقة تتناسب مع الأشكال الجميلة المبتكرة التي حوت قصائد الجِلياني من جهة، ومن جهة ثانية أصاب الناقد في منهج التحقيق، حيث قابل النسخ الثلاث من المخطوط، ولم يعتمد واحدة أصلاً يُقاس عليه، إذ إن النسخ يشوبها نقصٌ أشار إليه أبو ديب في المقدّمة التي كتبها، حيثُ وسّع المنظور وقارن بين ما فعله الجيلاني وما فعله الفرنسي أبولينير، منتصِراً للأوّل الذي أراد أن يكون الأوّل، فكان في الشكل الجميل لا في المضمون البديع.