تغير المناخ، الذي كان يعتبر قضية للمستقبل، انتقل الآن بثبات إلى الحاضر، ومن المتوقع إبرام اتفاق في شأنه نهاية هذا الأسبوع في باريس. لم يعد السؤال هل سيتم التوصل إلى اتفاق، لكن ما سيكون شكل الاتفاق وما مدى قوته. وبالمقارنة بخيبة كوبنهاغن عام 2009، يبدو أن مفاوضات باريس، مع أنها ما زالت خلافية أحياناً، هي على الطريق الصحيح نحو التوصل إلى اتفاق. وكلمتا رئيسي الصينوالولاياتالمتحدة، أكبر الملوثين في العالم، تشيران إلى استعداد غير مسبوق لتحمّل المسؤولية والالتزام بحل جماعي. فالصينيون قبلوا بنظام للمراجعة كل خمس سنوات والأميركيون قبلوا اتفاقاً ملزماً، وتبقى التفاصيل لتسويات الساعات الأخيرة. قسم بروتوكول كيوتو العالم أغنياء وفقراء، بحيث تسعى البلدان الغنية (المتقدمة) إلى تحقيق تخفيضات للانبعاثات، في حين لم تكن البلدان الفقيرة (النامية) ملزمة باتخاذ إجراءات في هذا الشأن. ومنذ ذلك الوقت، بات واضحاً أن الانبعاثات الكربونية للبلدان السريعة النمو، مثل الصين والهند، تزداد بوتيرة قد تضاهي تخفيضات الانبعاثات التي تقوم بها البلدان المتقدمة. وفي الواقع، حلت الصين مكان الولاياتالمتحدة كأكبر منتج لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في العالم. ونتيجة لذلك، لم يتحقق أي تقدم حقيقي لكبح الاحترار العالمي، وبات جلياً أن على جميع البلدان أن تساهم في الحل. بالنسبة إلى الاتفاق الجديد، قدم نحو 180 بلداً، تمثل أكثر من 95 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية، خطط عمل وطنية تتعلق بالمناخ وتعرف بالمساهمات المحددة وطنياً (INDC)، من سنة 2020 عندما تدخل الاتفاق حيز التنفيذ حتى سنة 2030. وسوف تشكل هذه المساهمات جوهر الاتفاق النهائي. المسودة الحالية للاتفاق تزيد قليلاً عن 30 صفحة، بالمقارنة بنحو 200 صفحة أعدها المفاوضون لمؤتمر كوبنهاغن. ولا تزال 30 قضية من دون حل، هنا خمس قضايا خلافية رئيسية منها: أولاً، الهدف العالمي على المدى الطويل: في كانكون عام 2010، اتفق المجتمع الدولي على أن ارتفاع درجة الحرارة حتى نهاية القرن يجب أن يبقى أدنى من درجتين مئويتين. وبما أن تغير المناخ هو مشكلة طويلة الأجل، فلا يمكن التصدي له بنجاح من خلال أعمال تطوعية قصيرة الأجل. تتضمن مسودة الاتفاق عدداً من الاقتراحات المتعلقة بهدف تخفيفي طويل الأجل، يراوح من إزالة انبعاثات الكربون نهائياً في الاقتصاد العالمي مع نهاية القرن الحالي، إلى هدف أكثر طموحاً هو اعتماد طاقة متجددة مئة في المئة بحلول سنة 2050. ثانياً، وضع سعر للكربون: «تسعير الكربون» ركيزة أساسية للانتقال إلى اقتصاد مرن مناخياً ومنخفض الكربون أو خال تماماً من الكربون. وهو سيخلق حوافز للتوفير في الطاقة، ويعزز تحولاً إلى استثمارات أكثر اخضراراً، بخاصة اعتماد الطاقات المتجددة. كما أن التخلي عن الدعم غير الموزون لأسعار الطاقة والوقود سيعطي ثقة وقدرة على التخطيط الواعي لاستثمار طويل الأجل في تنمية صديقة للمناخ. وهناك حالياً سياسات لتسعير الكربون في نحو 40 بلداً، منها الصين، وفي 23 مدينة وولاية ومنطقة ذات استقلالية اقتصادية. البلدان المصدرة للنفط ما زالت تعارض فكرة «تسعير الكربون». ثالثاً، المراقبة والمراجعة والتقييم: هناك عنصر حاسم في التنفيذ الفعال لاتفاق مناخ هو وضع إطار عمل مستقل وشفاف لتتبع التقدم في تنفيذ المساهمات المحددة وطنياً لتخفيض الانبعاثات، فضلاً عن التعهدات المالية. لقد اعترضت مجموعة البلدان النامية، بقيادة الصين، على آلية رسمية مستقلة لمراقبة ومراجعة تنفيذ الخطط الوطنية والتقدم في تحقيق الأهداف الطويلة الأجل. لكن الصين أعلنت أخيراً أنها تقبل مراجعة كل خمس سنين للتقدم نحو الأهداف المتفق عليها، لتحديد ما إذا كانت كافية. الاتجاه العام لدى المجموعة العربية هو رفض الرقابة الخارجية لتنفيذ التعهدات، فيما تقود دول الاتحاد الأوروبي المجموعة المطالبة باتفاقات ملزمة مع رقابة مستقلة. رابعاً، تمويل المناخ: التمويل هو القضية الأكثر إثارة للجدل في اتفاق باريس. فالبلدان النامية تريد صيغة تحدد بكلمات واضحة مسؤولية البلدان المتقدمة في تحقيق هدف المئة بليون دولار سنوياً بحلول سنة 2020. أما البلدان المتقدمة فاقترحت لغة تفتقر إلى التفاصيل مع تركيز أقل على مسؤولياتها. وتتزعم الولاياتالمتحدة مجموعة من الدول الغنية التي ترفض الالتزام بدفع تعويضات عن «المسؤولية التاريخية» لهذه الدول في انبعاثات الكربون، بدءاً من الثورة الصناعية. وفي هذه الأثناء، بلغت تعهدات البلدان المتقدمة لصندوق المناخ الأخضر أكثر قليلاً من 10 بلايين دولار، أي عشر المجموع المطلوب سنوياً. وتجدر الإشارة إلى أن ربع تخفيضات الانبعاثات التي اقترحتها بعض البلدان النامية مشروط بالحصول على تمويل وتكنولوجيا من البلدان المتقدمة. خامساً، الخسائر والأضرار: قضية الخسائر والأضرار الناتجة عن تغير المناخ هي مثار جدل كبير أيضاً. فبلدان الجزر الصغيرة وغيرها من البلدان السريعة التأثر، كما في أفريقيا جنوب الصحراء، تعاني حالياً من آثار سلبية ناتجة من الأحوال الجوية القاسية التي يقول الخبراء إنها تسوء بفعل الانبعاثات الكربونية المتراكمة في الغلاف الجوي، وهي تريد نصاً في الاتفاق يتيح لها المطالبة بتعويض، كما تطالب باتفاق ملزم لخفض الانبعاثات. وهنا يَبرز تناقض في المواقف داخل المجموعة الأفريقية كما بين مجموعة ال77 للدول النامية. فالدول المصدّرة للنفط ودول الاقتصادات السريعة النمو، وخلفها الصين والهند، ترفض اتفاقاً ملزماً. وهي في هذا تطالب بحقها في التنمية، وإن كان الثمن زيادة الانبعاثات الكربونية، ما لم يتم تعويضها. والهدف من رفع سقف المطالب الحصول على شروط ومكاسب أفضل. في حين تبدو تعهدات وطنية كثيرة طموحة، فهي في مجملها تقل عما هو مطلوب لإبقاء الاحترار العالمي أدنى من درجتين مئويتين بحلول نهاية القرن. وقد صدر أخيراً تقريران، أحدهما عن أمانة اتفاقية الأممالمتحدة الإطارية لتغير المناخ والآخر عن برنامج الأممالمتحدة للبيئة (يونيب). وكلاهما يبينان أنه حتى لو احترمت البلدان تعهداتها المتعلقة بالمساهمات المحددة وطنياً احتراماً تاماً، فإن معدل درجات الحرارة سيرتفع رغم ذلك بأكثر من درجتين مئويتين، وتحديداً 2.7 درجة وفق أمانة الاتفاقية و3 درجات وفق «يونيب». ومع ذلك، سيكون اتفاق باريس خطوة رئيسة لتحقيق عمل جماعي في شأن تغير المناخ. وهذا بالتحديد ما يدعو إلى تضمين الاتفاق مراجعة نتائج التنفيذ دورياً والتزام الدول بخطط جديدة لتخفيض الانبعاثات كل خمس سنين. أظهرت التقارير المتعاقبة التي أصدرها المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) أن المنطقة العربية هي الأكثر عرضة في العالم لآثار تغيّر المناخ، بخاصة ازدياد الجفاف وندرة المياه العذبة وارتفاع البحار. وجاء في تقرير حديث لعلماء من معهد مساتشوستش للتكنولوجيا (إم. آي. تي) أن أثر ارتفاع درجات الحرارة وتكرار موجات الحر المتطرفة سيكون كارثياً في بلدان الخليج العربية، إلى حد قد تصبح الحياة فيها شبه مستحيلة بعد عام 2070. هذا يجعل المجموعة العربية صاحبة مصلحة في دعم المساعي لخفض الانبعاثات الكربونية على المستوى العالمي، بما يسمح بوقف ارتفاع معدلات الحرارة فوق درجتين مئويتين. ولا بد خلال السنوات المقبلة من تسريع عملية تنويع الاقتصاد، باستخدام دخل البترول ومدخراته في تطوير التكنولوجيا والتربية والأبحاث والتنمية البشرية. وليس هناك ما يمنع البلدان العربية من أن تصبح رائدة في إنتاج الطاقة النظيفة المتجددة وتصديرها. * محمد العشري نائب رئيس اللجنة التنفيذية للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) وزميل أول في مؤسسة الأممالمتحدة والرئيس السابق لمرفق البيئة العالمي. * نجيب صعب الأمين العام ل «أفد» ومحرر سلسلة تقارير «وضع البيئة العربية». وهما يشاركان مع وفد من «أفد» في مؤتمر الأممالمتحدة حول تغير المناخ الذي يعقد في باريس.