أحيت العازفة الروسية الشهيرة كاترينا كوفريكوفا أمسيتين، الأولى في طرابلس (شمال لبنان) برعاية بلدية المدينة، والثانية في قاعة القصر البلدي في جونية (شمال بيروت). وبادر كل من رئيس بلدية جونية جوان حبيش ورئيس البيت اللبناني الروسي الدكتور سهيل فرح الى دعوة كوفريكوفا واقامة حفلات لها واستضافتها. الى أي مدرسة موسيقية في العزف تنتمي وما هي ميزاتها؟ تقول كوفريكوفا في حوار مع «الحياة» انها تربت على مدرسة الأب الروحي نيغاوس للعزف على البيانو في روسيا، وما يميز هذه المدرسة هو الغوص العميق في جوهر المؤلفات الموسيقية التي ابتكرها أساطين من التأليف الموسيقي الروسي والغربي والعالمي عموماً، وفي البعد التقني للعزف حيث يكمن الهدف في الوصول الى جوهر المقطوعة الموسيقية ذات البعد الثقافي الحضاري الموسيقي الواسع. وتعتبر العازفة الروسية أن القاعدة الأساسية التي تستمد منها ثقافتها الموسيقية تتمثل أولاً وقبل كل شيء في الموروث الثقافي الروسي الكلاسيكي منه والمعاصر على حد سواء. وبحكم عملها في مسرح الأوبرا والباليه في مسرح موسى غاليلي في مدينة قازان تمكنت من التواصل والتعاون مع عدد كبير من قادة الأوركسترا الغربيين، ما جعلها تتعرف عن قرب الى خصائص الموسيقى الغربية . لدى سؤالها عن الخصائص التي يتميز بها الموروث الثقافي التتري عن سائر الموروثات المندمجة في الجمهورية الروسية، توضح كوفريكوفا : «كي أكون منصفة ينبغي القول إن العنصر الأساس الذي أسهم في تكوين الشخصية الثقافية الموسيقية التترية في القرن العشرين وأعني بذلك إبان الحقبة السوفياتية هو بلا أدنى شك العنصر الروسي المشبع في سلافيته وأرثوذكسيته وغربيته الأوروبية تحديداً، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي أضحت هذه الجمهورية ذات السمات الخاصة في تركيبتها الإثنية والدينية تفتش عن الجانب التاريخي الضائع في شخصيتها». وتضيف: « هذا الجانب يشكل فيه الإسلام والشرق ككل عنصرين أساسيين في مراحل تاريخية تعود في أصولها الى المرحلة التي أدخل فيها الرحالة العربي الشهير ابن فضلان الإسلام الى تلك الديار كدين، ومن ثم تحول الى ثقافة وحضارة وقد أضيف الى ذلك العمق الحضاري التاريخي لعدد من شعوب الشرق الأمر الذي جعل من هذه الثقافة التترية مركّباً تعايشت فيه كل هذه العناصر، فبرز في تلك الحقبة هذا العنصر، ثم خبا العنصر الآخر». وتشير الى أن مجموعة من الأبحاث تعمل على إنعاش ما هو خلاّق وإيجابي في كل هذه المكونات والعمل على التحرر من الأفكار النمطية التي كونها جانب ما من هذه المكونات حيال المكون الآخر، من أجل تأصل قاعدة متناغمة بين إيجابيات الروسي والإسلامي والشرقي والغربي معاً في هذه الشخصية التترية المعاصرة. وتقول: « أنا كوني روسية أعيش في هذا المدى أعمل بكل صدق وإخلاص من أجل إعلاء الإيجابيات الموسيقية وتطويرها وتعميمها لتدخل الى ثقافة كل تتري وروسي وأجنبي ينشد الإبداع والجمال في كل مكان». والى جانب ممارستها العزف على البيانو منذ نعومة أظفارها، تهتم كوفريكوفا كثيراً بالبحث في المسائل التي تُعنى بالحوار بين الثقافات، وشاءت الصدفة في إطار المهرجان الرابع للسينما الإسلامية العالمية في مدينة قازان، أن تتعرف الى رئيس حلقة حوار الثقافات وثقافة الحوار في إطار المهرجان الدكتور سهيل فرح رئيس «البيت اللبناني - الروسي». وقدمت مداخلة مرفقة بالعزف على البيانو بعنوان «حوار الثقافات الموسيقية الأرثوذكسية والإسلامية في المدى التتري والروسي عموماً»، ما أثار انتباه رئيس الندوة، ودعا كوفريكوفا باسم البيت الى اقامة عدد من الحفلات الفنية في أعرق الصالات في لبنان، منها «الإسمبلي هول» في الجامعة الأميركية وقاعة عصام فارس في جامعة «سيدة اللويزة» و «البيت اللبناني الألماني» و «الجامعة اللبنانية الأميركية» ومركز «الصفدي» في طرابلس. كل هذه الأمسيات ركزت على أعمال مؤلفين موسيقيين كبار شكلت أعمالهم جسر تواصل حقيقي بين ثقافات الشرق والغرب، بين الأرثوذكسية والإسلام، وبين حملَة الرسالات السماوية والحضارية عموماً، مثل: «ليست، وبالاكيرييت» وياخن ورحمانينوف وريمسكي كورباكوف وخاتشادوريان وغيرهم الكثيرين. ولنأخذ مثالاً، أكثر تحديداً، بعض أعمال شومان «درومينغ» التي عزفتها فرقة موسيقية أرثوذكسية في مدينة فولغاغراد قرب الشعلة الخالدة في الساحة الرئيسة لهذه المدينة، تقليداً للانتصار على شبح الموت والحرب الفاشية الألمانية. وتطمح كوفريكوفا من خلال هذا المنحى الشاق والصعب الى الغوص في الجانب المشرق في الشخصيات الثقافية والروحية للشعوب، هذا الجانب الذي تراه شديد التشابه والتقارب، والسعي الدائم ليس فقط الى توسيع، بل الى تعميق ثقافة الثقة والاحترام بين حملة الثقافات والرسالات السماوية المتنوعة. وتقول: « فكلما تعرفنا بعمق الى ثقافة بعضنا بعضاً الزمنية والروحية، نتحرر من الأفكار المنمطة التي تكونت في ذواتنا الثقافية عن أنفسنا وعن الآخر في توسيع الثقافة وتعميقها بين الحضارات والأديان والمعارف المتنوعة. نخلق من داخل كل واحد منا مساحة لا حدود لها لاحترام الآخر للتواصل معه وللشراكة، ومع الفنون في هذا السياق، الموسيقي تحديداً، تكون هذه المهمة أقل وعورة، وفيها تكمن الطاقة النورانية، في داخل الشخصية الثقافية للشعوب، هذه الجوانب هي الأكثر خلوداً في مسيرة الحضارة الإنسانية على هذا الكوكب».