ثمة بلدان في العالم لا نفكر في زيارتها أبداً، بسبب عطب في الجغرافيا أو المناخ أو الوضع السياسي والأمني. وثمة بلدان نحتاج بداعي الفضول الى زيارتها مرة واحدة وأخيرة. وثمة بلدان أخرى ننجذب اليها منذ اللقاء الأول، بفعل سحر في الطبيعة أو كرم في الضيافة أو رقة في طبائع الناس. ولو لم تكن عُمان من النوع الأخير لما كنت لأزورها هذا العام للمرة الثالثة، من دون أن يخالجني شعور بالتردد أو الملل. وأعتقد بأن شعراء ومبدعين كثراً يشاركونني الشعور نفسه إزاء هذا البلد الذي يمتلك أهله وجغرافيته الرحابة نفسها، وتعكس ملامح الوجوه فيه نقاء سريرة البشر وهدوءهم الدهري. فلا مكان في عمان للصلف وضيق الصدر وعقد النقص والانغلاق على الذات، بل للتواضع الجم وبساطة العيش وحرارة التفاعل مع الزائرين. ذلك أنّ كل نأمة هناك تسند ظهرها الى صخرة صلبة، وكلّ صرخة تتكئ على كوكبة من المراثي، وكل موجة تختزن في ذاكرتها عصوراً من الأعاصير وحطام السفن الغارقة. أما الشعر هناك فليست الكلمات ملعبه الوحيد بل هو يتجلى في طفولة النظرات الوادعة للبشر، وفي الانحدار السيفي للجبال، كما في العناقات الحميمة بين الخلجان الخفرة والموانئ المشرعة على اللانهاية. مفاجآت قليلة كان لا بد تبعاً لذلك أن أشدّ الرحال الى عُمان للمرة الثالثة هذا العام، بعد مشاركتين اثنتين في معرض مسقط للكتاب ومهرجان الخريف في صلالة. صحيح أن مهرجانات الشعر بوجه عام لم تعد تضيف الكثير الى متتبعي هذا الفن وعشاقه، ولم تعد تحفل بالمفاجآت التي كانت تحملها مهرجانات مماثلة قبل نصف قرن، ولكن الصحيح أيضاً أن مجرد الدعوة الى احتفال شعري في هذا الزمن العربي المأهول بالانحطاط والفظاعات الدموية الكارثية هي بمثابة انتصار رمزي للفرح والفن وإرادة البقاء على الأرض. هكذا بدا مهرجان «أثير» للشعر العربي الذي تولى تنظيمه والدعوة إليه الشاعر العماني الشاب عبدالله العريمي نوعاً من المجازفة والسباحة ضد التيار، التي يجيدها العمانيون الهادئون على صلابة في غير ساحة ومضمار. وفي فندق «أمواج» الوادع والحميم التقى على امتداد خمسة أيام عشرون شاعراً عربياً ينتمون الى بلدان عدة وتيارات ومدارس مختلفة. وفيما ظهر بوضوح أن غالبية المدعوين هم من جيل الشبان، بدونا أنا والتونسي منصف المزغني والعراقي علي جعفر العلاق والناقد السعودي سعيد السريحي ممثلين لجيل آخر داهمته الكهولة على غفلة وأثخنته بالطعنات خيبات وهزائم متلاحقة وشديدة الوطأة. على أن حساب الزمن وفروق الأجيال لم ينعكسا فروقاً في جدة النصوص الملقاة وطزاجتها، بحيث لم ينسحب صراع «الأعمار» على صراع «الأعمال» بل تقاطعت الأساليب وتباعدت وفقاً لمعايير وخيارات ومفاهيم مغايرة تماماً. لم تعقد أمسيات مسقط الأربع في قاعة مغلقة كما جرت العادة في معظم المناسبات المماثلة، بل اختيرت للقراءة الحديقة الخلفية الملاصقة لجريدة «عمان»، الأمر الذي دفع بعضنا الى التوجس من المكان المفتوح الذي يساهم، على جماله، في تشتيت البصر وحرمان البصيرة من التركيز. على أن هذه الهواجس السلبية سرعان ما تبددت بفعل هدوء الجمهور الذي كان نصفه من الشعراء من جهة، ولأن الليل «أرخى سدوله» على المكان ولعب دور الجدران السوداء والمقفلة، من جهة أخرى. أما قمر عمان الفضي والمطل من عل على باحة الاحتفال، والذي اكتمل بدراً في ليلة الاختتام، فقد أعطى للمشهد بُعده السحري وبدا كما لو أنه حصة الطبيعة من استعارات الشعر ولوازمه الضوئية. هكذا بدا المكان بمسرحه وخلفيته النموذجية ملائماً تماماً للقراءة الهادئة والعميقة، وللتفريق الحاذق بين الرطانة والجدة، وبين التطريب السطحي واضطرامات الداخل. كان ثمة مناخ للتفاعل بين الشاعر والحضور لا يحتمل الصخب العارم والاستسلام السهل للإنشاء البلاغي والإيقاعات الرنانة والخالية من المعنى. وإذا كان من المناسب أن أشير الى أن الدورة الأولى للمهرجان قد حملت اسم الخليل بن أحمد الفراهيدي تكريماً لمؤسس علم العروض ذي المنشأ العماني، فإن الأمر لم يظل في عهدة الرمز وحده بل إن منسوب» الوفاء» لعمود الشعر الخليلي كان مرتفعاً تماماً بالقياس الى «خيانات» الأحفاد وخياراتهم المضادة. كما لا يمكن هنا إغفال الحقيقة المتمثلة بطغيان قصيدة الوزن، بشقيها الخليلي والتفعيلي، على قصيدة النثر التي بدت شبه يتيمة في المهرجان، خلافاً لما هو حاصل في اللحظة العربية الراهنة حيث تحتل هذه الأخيرة الرقعة الأوسع من المشهد الشعري. إلا أن الأمانة توجب الاعتراف بأن عدداً من المشاركين استطاع أن يحقن القصيدة العمودية بأمصال التميز والابتكار والمباغتات الصورية والرؤى الحديثة وغير المستنفدة. احتفالاً بالفراهيدي في كلمته الافتتاحية أكد رئيس تحرير صحيفة «أثير» الإلكترونية على أن الاحتفاء بالخليل بن أحمد وإطلاق اسمه على الدورة الأولى للمهرجان لم يكن بمحض المصادفة بقدر ما هو ناجم عن ارتباط الخليل «بطين هذه الأرض واسمها، ولقانونه الموسيقي الذي أهداه للأجيال التي تأتي بعده». أما الأمسية الأولى فقد ضمت، الى كاتب هذه السطور، كلاً من اليمني جميل مفر ح الذي أهدى مشاركته لمعاناة بلاده وحاضرها الذي لم يعد يحمل من السعادة سوى اسمها وأطلالها الغاربة. والفلسطيني راشد عيسى الذي قرأ بأداء لافت ومتمكن مجموعة من المقطوعات القصيرة والمختلفة الدلالات. والعماني حسن المطروشي ذي الصوت الخاص الذي لا يعوزه الجمع بين وضوح العبارة وغموض المعنى المفتوح على التأويل، الأمر الذي بدا جلياً في قصيدته الجديدة «عد تنازلي»، ليختتم الأمسية الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق الذي قرأ بنبرته الهادئة قصائد ناضحة بالشجن الغنائي حول الغربة والفقد وتشظي المكان. أما في الأمسية الثانية فقد قرأ العراقي عدنان الصائغ نصوصاً شعرية قصيرة تعتمد التكثيف والاختزال وضربة الختام المباغتة. وفي حين فاجأت الكويتية سعدية مفرح الحضور بقراءة قصائد على الوزن الخليلي والتفعيلي قبل أن تعود إلى فضاءاتها النثرية المحمّلة بالظلال مع مرثية مؤثرة لصديق راحل، كان المصري حسن شهاب الدين يواصل مغامرته الجريئة في حقن القصيدة الخليلية بأمصال الصور والرؤى الحداثية والمبتكرة. ثم تبعه الفلسطيني صلاح أبو لاوي الذي لم يجد ما يدفعه «مهراً» لزوجته سوى الشعر، على ما تقوله إحدى قصائده، فيما أهدى قصيدة أخرى الى إحدى المدن الأميركية على الميسيسيبي. وفيما غاب الشاعر العماني خميس قلم عن الأمسية عاد وقرأ في جلسة صباحية بعضاً من النصوص القصيرة الأقرب الى التوقيعات وقصائد الهايكو. في الأمسية الثالثة قرأ الشاعر الفلسطيني أحمد أبو سليم، وبنبرة غنائية عالية، قصائد عن المأساة المزمنة التي يرزح شعبه تحتها منذ عقود. ثم تبعته الشاعرة المصرية سلمى فايد التي قرأت من دون التفات إلى الجمهور نصوصاً تأملية عن عراك الشاعر مع الوجود. وهو ما فعله السعودي محمد إبراهيم يعقوب الذي نحا بالقصيدة الخليلية منحى هادئاً وقريباً من المساررة الداخلية الخافتة. وبعد أن قرأ العماني محمد قراطاس نصوصاً عمودية ذات نزوع وطني، اختتم الشاعر التونسي منصف المزغني الأمسية الثالثة بأسلوبه المعروف الذي يمزج بين المسرحة والتقطيع الصوتي وبين التهكم المرّ على الواقع، من دون أن يجد حرجاً في أداء قصيدته الأخيرة عن المرأة العائدة من الحرب بطريقة إنشادية مباشرة. شعر وسمر أما في الأمسية الختامية فقد جمع الشاعر العراقي عارف الساعدي بين المهارة الوزنية وليونة اللغة ودقة التصويب نحو المعنى، وبخاصة في قصيدته اللافتة «ما لم يقله الرسام». وفيما كانت العمانية حصة البادي تسند قراءاتها إلى المنجزالشعري التفعيلي، قرأ الشاعر الإماراتي إبراهيم محمد إبراهيم قصيدة طويلة بعنوان «سكر الوقت» أقام من خلالها مقارنة مضمرة بين جماليات المنافي ومرارات الأوطان. ليتبعه الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري في مقطوعات قصيرة تعتمد الترشيق الوزني والتقفية الداخلية، حيث «تأتي سعاد لكي أجدد بيعتي لسرابها». أما ختام الأمسية فكان مع الشاعر اللبناني مهدي منصور الذي بدا ممتلكاً لناصية المنبر، والذي رغم إخلاصه للقصيدة الخليلية عرف كيف يضيف لمساته الخاصة الى هذه القصيدة ويحررها من التماثل النمطي. وقد حرص منصور أن يقطع قراءته ليطلب من الشاعر عبدالله العريمي، منظم المهرجان، اعتلاء المنبر لأخذ فرصته في القراءة الشعرية. وهو ما حدث بالفعل حيث اختتم العريمي المهرجان بقصيدة تفعيلية طويلة ومتعددة الأصوات، وبأخرى غزلية تتحول معها صيغة المثنى الى منصة للإحالات الصوتية والدلالية. ولم يكن النقد غائباً عن المهرجان. فقد عقدت في إطار فعالياته جلستان اثنتان. على أن حديث المهرجان لا يكتمل من دون الإشارة إلى جلسات الأنس والسمر والطرف اللمّاحة التي كانت تقام في أروقة الفندق وصالوناته ومقاهيه، حيث يحاول جيلان من الشعراء متباعدان أن يردما ما أمكن هوة الزمن العميقة، وحيث يستعيد الكهول ذكريات مشتركة لا يكاد يظل منها سوى ما يخز القلب من أشواك الحنين الى ورود الماضي. ومن دون الحديث عن مكبر الصوت في الحافلة التي تحولت رحلاتها القصيرة الى مناسبة للهرج والمرح وقراءة القصائد الساخرة وتبادل النكات. أما الزيارة التي وفرها المنظمون لدار الأوبرا السلطانية في مسقط فقد جاءت في مكانها تماماً لأنها أتاحت للشعراء والنقاد أن يعاينوا عن كثب أحد أروع الصروح المعمارية في الشرق وأكثرها تعبيراً عن الطموح العماني غير المحدود للالتحاق بقيم الحداثة والعصر من جهة، والتشبث بروح الماضي وأصواته الجوفية المترعة بالترجيعات من جهة أخرى.