الزيارة الاخيرة التي قمت بها الى مسقط للمشاركة في مهرجانها الشعري الثالث لم تكن الاولى بالنسبة إلي، بل سبق أن زرت العاصمة العمانية قبل سنوات تسع للمشاركة في مهرجان مماثل. وقد يكون للانطباع الايجابي والمشاعر الدافئة اللذين خرجت بهما من تلك الزيارة الأثر الاهم الذي جعلني أعقد العزم على تلبية الدعوة الجديدة، على رغم ان مهرجانات الشعر قد فقدت جاذبيتها منذ زمن غير قليل ولم يعد لها ذلك البريق الذي امتلكته في سبعينات القرن الفائت وثمانيناته. الا ان تلبية الشعراء للدعوات الموجهه اليهم لم تعد مرتبطة على الاغلب بجاذبية الوقوف على المنابر، بل برغبة التعرف الى بلدان اخرى وتوسيع دائرة العيش وأفق المرئيات والاتصال بنظرائهم البعيدين الذين لا سبيل للانتقاء بهم الا في مناسبات مشابهه. هكذا وجدتني اجيب بالموافقة المشوبة ببعض التردد على الدعوة التي نقلها هاتفياً صديقي الشاعر العماني حسن المطروشي، مدير النادي الثقافي في مسقط. والتردد لم يكن متصلاً بالجهه الداعية أو البلد المضيف، بل لأنه لم يسبق لي ان غادرت بيروت منذ عقود عدة خلال اقامة معرضها الدولي للكتاب الذي اعتبرته عيد المدينة السنوي ورمز انتصارها للمعرفة والتجدد والحياة ضد كل ما يحيق بها من اخطار. هكذا صعدت سلّم الطائرة التي ستقلّني الى مسقط منقسماً على نفسي حيث كان جزء مني يتوق لزيارة ذلك البلد العربي المحفوف بالسحر والغموض وتنوع الجغرافيا فيما الجزء الآخر يلتفت بالقلب الى الوراء حيث البريق الآسر لقاعة «البيال» الحاوية على ملايين الكتب والاصدارات القديمة والجديدة وعلى صداقات مزمنة تعصمها اروقة العرض وقاعة الكافيتيريا الملحقة به من النسيان. وحده الدخول الى الطائرة يتكفل بحسم الصراع وتهيئة النفس للانتقال، ولو لأيام اربعة فقط، الى البوابة الشرقية للعالم العربي التي تمتنع أسرارها المستغلقة عن الانكشاف. لكن المفاجأة الاجمل في هذا السياق تمثلت بوجود الشاعرين الصديقين يوسف عبدالعزيز وحبيب الزبودي على متن الطائرة التي نقلتهما من الاردن عبر محطتها البيروتية التي اتاحت لنا عبر تبادل الأحاديث والذكريات تقصير الطريق الطويل الى مسقط، والتي وصلناها بعيد منتصف الليل لنجد الصديق حسن المطروشي في انتظارنا على ارض المطار. حداثة حميمة قد يكون مبنى النادي الثقافي الذي انعقدت امسيات الشعر الثلاث في قاعته الكبرى متواضعاً من حيث مساحته أو ارتفاعه. لكن تواضعه ذاك لم يكن على حساب طرازه الهندسي اللافت الذي تكون على المزاوجة بين الروح المشرقية الدافئة والمزينة بالقناطر والأقواس والفضاءات الحميمة وبين روح الحداثة والتجدد والتأنف الجمالي. كان ثمة فناء داخلي واسع وقاعة كبرى للاستقبال وقاعات مماثلة للكتب وتقنيات الاتصال المعاصرة. اما قاعة المحاضرات فلم تكن تتسع لأكثر من مئتي شخص ولكنها بحميميتها الدافئة كانت قادرة على لمّ شمل الأسماع حول الصوت القادم من المنصة وإحاطة الشعر بكل ما يلزمه من احتضان. الامر الآخر الذي ساهم في انجاح المهرجان هو اقتصار المشاركين فيه على خمسة عشر شاعراً عربياً وعمانياً توزعوا بالتساوي بين أمسيات ثلاث، مما منع الحدث الثقافي من ان يتحول الى «مولد» شعري يتعاقب عشرات المشاركين على جمهوره الصابر الذي يصل به التعب الى حدود الانهاك. في الليلة الاولى من المهرجان قرأ الشاعر الجزائري عياش يحياوي أربع قصائد متفاوتة الطول والعصب والايقاع مازجاً بين الاسلوبين العمودي والتفعيلي ومحاولاً ان يوفق ما امكن بين ما هو قادم من الذاكرة، كما في قصيدته «تابوت الغريب» وبين نبرة صوفية مغايرة في قصيدته «القديس»، إضافة الى قصيدة اخرى مشبعة بالحنين الى وهران. أما الشاعرة العمانية عائشة السيفية فقد عملت على جذب الجمهور عبر إلقاء مسرحي تمثيلي يتسم بالجرأة والثقة بالنفس وبخاصة في قصيدتها «لا اشبه احداً» التي اعتمدت الايقاع السريع والمتواتر والدعوة الى التمرد على السائد الذكوري والاجتماعي، اما الشاعرة الاماراتية صالحة غابش فبدت اغرب الى النبرة الهادئة واللغة التي تجانب التهويل والخطابة لتجنح الى الهمس والتأمل، في حين ذهب الشاعر العماني اسحاق الخنجري على رغم موهبته الواضحة، الى نوع من الانشاد الغنائي الذي عجز عن تخليصه من بصمات الشعراء الرواد ووطأتهم المباشرة. في امسية الليلة الثانية كان خمسة شعراء آخرين يفتحون المشهد الشعري على مقاربات وأساليب متعددة السمات والمشارب. فمن المناخات التقليدية للشاعر العماني هلال السيابي الى المناخات الغنائية الرعوية للشاعر الاردني حبيب الزبودي الذي يرى فيه الكثيرون امتداداً محدثاً لصوت عرار المتصل ببراءة اللغة وانتفاعها الفطري. ومن النبرة الساخرة المتكئة على المنجز التعبيري التراثي لحسن الزهراني الى محاولة العمانية الحروصية التوفيق بين لغة التأمل الكاشف وبين عالم الهناءة الرومانسي. اما الفلسطيني عبدالعزيز فقد اختتم الامسية بالكثير من النصوص القديمة والجديدة التي توائم بين الجمال التعبيري والصورة المباغتة من جهه وبين الشغف الشهواني بالحياة والجذر الطهراني للكتابة. اما شعراء الليلة الثالثة فلم أتمكن بسبب السفر من الاستماع الى قصائدهم وهم: يحيى اللزامي وهلال الحجري من عمان ونجمة إدريس من الكويت وعلي عبدالله خليفة من البحرين وعلي الشلاه من العراق. شعر وبحر لم يكن ينقص ذلك الهدوء العماني الدهري سوى الاعتدال النموذجي للمناخ حيث بدا خريف مسقط قبل ايام اقرب الى صورة العالم في الروايات الرومانسية او قصص الحب او الاحلام. كانت المقادير التي تتلقفها الارض العمانية من الشمس هي المقادير الرعشة في الاوصال وحمل الكائنات على الحب والتآلف والتمتع بالعيش. على ان ثمة نوعاً من المفارقة لا بد من ان يتأتى من وقوع المدينة على الاطراف الجنوبية الشرقية للجزيرة العربية حيث الشواطئ المترامية ترتجف عارية وعزلاء أمام المحيط المشرع على نهاية العالم والذي لن يتورع مزاجه المتقلب عن ضرب الساحل العماني ومدنه الآهله بأكثر من تسونامي وأكثر من كارثة طبيعية. الامر الآخر اللافت بدا من خلال الجبال السوداء المحيطة بالعاصمة والتي يأخذ بعضها شكل مثلثات مروسة أقرب الى الأهرامات الطبيعية التي لا يد للبشر ببنائها. لعل الرحلة البحرية التي نظمها المضيفون للشعراء الوافدين على متن القارب المسمى «نجمة البحر» كانت المحطة الاجمل في الزيارة. فبعدما قطعنا المسافة بين مسقط الجديدة والشاطئ العماني مروراً بالعاصمة القديمة والمحاطة بالاسوار التي يتوسطها قصر السلطان المفرط في اتساعه وجماله الباذخ راح المركب يذرع بنا مياه المحيط الساكنة والخالية تماماً من الامواج. فيما كانت تلوح قبالتنا الجبال المتعامدة على الشاطئ والتي كانت ترتفع فوق قممها المتخاصرة عشرات الابراج المحصنة التي بنيت قبل مئات الاعوام لحماية المدينة من غزوات القراصنة والفاتحين. والطريف في الامر ان المرارة التي غادرت بها بيروت عند بداية الرحلة سرعان ما أخلت مكانها لنوع من الغبطة والشعور بالامان ودعة العيش.