يتحفنا «متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو» بمعرض بانورامي استعادي شامل لولفريدو لام، مع أربعمئة لوحة أساسية في سيرته الفنية رتبت وفق تسلسل سياقها التاريخي. تتكشف فترة تأثره بالفن الهندي خلال إقامته فيها ما بين عام 1960 و1970 ثم عبوره إلى المكسيك ماراً على مصر والحضارة الفرعونية. تصل درجة اتقان «سينوغرافية العرض» إلى مستوى أهمية أصاله هذا الفنان كنموذج للشمولية العالمية العمودية في التعبير. لذلك يعرفه الفنانون المحترفون ويجلون تجربته أكثر من جمهور هواة الفن. يستمر المعرض حتى منتصف شباط (فبراير) 2016. ولد لام في «هافانا» عاصمة الجزيرة الكوبية عام 1902، من أب مثقف صيني، هاجر من كانتون مع نهاية القرن التاسع عشر ولجأ إلى كوبا. ومن أم أفريقية، يختلط في بشرتها الداكنة سمار أصلها الهجين ما بين أفريقيا وجزر الكاريب أو المارتينيك في المحيط الهادي، ربما عانت في شبابها من تجربة العبودية الأوروبية. نكتشف تعددية مواقع إقامته عبر لوحاته: شدة ترحاله وسعيه بين الأقاليم والقارات، مدفوعاً ولو بإحساس ورد فعل غير مباشر بالهروب مثل والديه من قوى الشر التي تكمن في الحكم الديكتاتوري مهما كانت أقنعته الأيديولوجية. تذكرني تجربته الروحية المتنقلة بهجرة الزهاد الهائمين على وجههم في أرض الله الواسعة «لا يملكون شيئاً ولا يملكهم شيء». يبدأ المعرض مع بداية سيرته الإرتحالية - الفنية، أي هجرته الأولى إلى إسبانيا يافعاً، ثم يدرس الفن في أكاديمية مدريد ما بين 1920 و1930. تكشف لوحات هذه الفترة منذ بواكيرها موهبة استثنائية في الرسم والتلوين وفي تكوين الشخوص ذوي القامات الممشوقة التي تشق الفراغ، وبأداء بالغ المتانة الأكاديمية، وبالغ الحداثة. نتلمّس معه عبرها خصائص حساسيته الحلمية التي نضجت مع هجرته الثانية إلى عاصمة الفن التشكيلي باريس، والتي بدأت لوحاته فيها تشق طريقها لتضع قطاره الأسلوبي على سكته بصيغة أصيلة حاسمة ومستقلة عبر شتى التأثيرات التوليفية السابقة أو اللاحقة. لعل أبرز منعطف فني أثّر في سياقه الأسلوبي هو تعرفه إلى بابلو بيكاسو في باريس عام 1938، وتروي وثائق المعرض أن اللقاء كان محض صدفة في أحد مقاهي الحي اللاتيني (فياسان جرمان دو بري الخاص بصالات العرض)، بادر «لام» بتحية بيكاسو باسماً، وبعد أن أصغى إلى تعريفه بنفسه وأنه درس في اسبانيا بلد بيكاسو وهرب من أجواء الحرب الأهلية وديكتاتورية فرانكو الذي كان بيكاسو معارضاً صريحاً له، انفرجت أسارير بيكاسو وهو يتأمل صور لوحاته مرحباً به بقوله: «إنك تحمل الدم نفسه الذي يجري في عروقي» متخيلاً أن هناك قرابة غامضة بينهما منذ الأبدية، ثم يرافقه للتو وبثقة مطلقة وعفوية إلى محترفه ليطلعه على مجموعته الخاصة من المنحوتات والأقنعة الأفريقية التي وجدها شبيهة برؤوس طواطم لام. ترسّخت منذ ذلك الوقت هيئة طواطم الكائنات النباتية والحيوانية والبشرية لدى لام، وتشكّل برزخاً متوسطاً بين أصول الفن الكوبي (وعقيدة الفودو الأسطورية) من جهة، وملامح وجوه بيكاسو والأقنعة الأفريقية الطقوسية السحرية من جهة أخرى. يعترف لام بهذا التأثير المغناطيسي بقوله: «أمام بيكاسو وللمرة الأولى أدركت أن اللوحة ما هي إلا اقتراح موجه إلى المشاهد». أما مصدر التأثير الثاني فهو صداقته الحميمة مع منظّر السوريالية الفرنسية الشاعر أندريه بروتون، هو الذي كان متحمساً لأسلوب لام. تعبّر عن هذه الحميمية القصيدة التي أهداها الشاعر لفناننا يقول فيها عنه: «ترتفع قامته في ليل الزمان المديد، هو دوماً كائن الريح الشامخ الصدر»، وعلى رغم عمق تأثير الاثنين على أسلوبه فإن استقلال عالمه الأسطوري كان موازياً لبيكاسو وبروتون وليس تابعاً لهما. لوحة «الغابة» العملاقة المنجزة عام 1943 تذكر بشدة بلوحة بيكاسو «غورنيكا» ومع ذلك فخصائصها الحاسمة أبعد ما تكون عن أي تأثير. فالغابة المدارية الكوبية يحمل قصب سكرها المتزاحم في ذاكرته الطفولية. تحتشد طواطمه العمودية برؤوس قمرية تذكر ببعض موتيفات حضارات بائدة مثل الآنكا والآزتيك، أما الأقدام الضخمة السحرية المغروسة في وحشة الغابة الصغيرة (هي ترجمة لاسمه لام)، فليست بعيدة عن حساسية معاصريه مثل البرازيلي الفريد تومايو. يصوّر في شكل عام كائنات ليلية مهجنة ملتبسة أو رمزية: فالإمرأة حصان والرجل كوكب وهكذا، أما وحشة الغابة الليلية فمردها عادته في أن يصور دوماً ما بعد منتصف الليل. يؤكد المعرض شمولية وعالمية أسلوبه وانتسابه إلى قارات أربع: أميركا وآسيا وأفريقيا وأوروبا. أما آخر هجراته فهي العودة إلى موقع ولادته هافانا، وصدمته القاتلة من حال بلده من فقر وفساد وغياب للحرية، وهكذا توفي عام 1983 مقهوراً بهذه الحال المضنية.