إذا قارنا بين حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى الحكم في تركيا من طريق الانتخابات الديموقراطية الحقيقية (بشهادة الجميع) وبين حزب آخر جاء في بلد آخر إلى الحكم بواسطة الانقلاب أو الانتخابات الصورية فإننا لن نجد فارقاً كبيراً بينهما من حيث الاستئثار بالسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية ومن حيث تهميش فئة أو أكثر من فئات المجتمع حقوقياً وسياسياً واقتصادياً خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأقليات القومية والطائفية والمذهبية... الخ. ولا نتجنى على حزب العدالة والتنمية إذا قلنا أنه يجمع السلطات الثلاث في يده، من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء والوزراء إلى أعضاء البرلمان... الخ. وقد يتساءل سائل ما المشكلة في ذلك إذا كان قد جرى الأمر في شكل ديموقراطي؟ هنا سأتفق مع السائل وأعتبر المسألة طبيعية وأن من حق حزب العدالة والتنمية أن يستأثر بالسلطات الثلاث لأنه فاز بالغالبية الساحقة عبر الانتخابات الديموقراطية، ولكن ليس من حق حزب العدالة أن يمحو كيان الدولة ويحل محله وينفذ الأجندات السياسية والإيديولوجية الحزبية الضيقة على حساب أجندة الدولة التي هي أجندة الشعب (أي على حساب الشعب) أو يحرم مكوناً أساسياً من مكونات الشعب التركي من حقوقه الوطنية والثقافية والقومية وأقصد المكون الكردي الذي يبلغ تعداده 20 مليوناً أو أكثر (أي 25 في المئة من سكان تركيا) بحجة أنه ليس من القومية التركية أو يحرم 10 ملايين علوي أو أكثر من حقوقهم المذهبية أو الطائفية. أعتقد أن هناك ثلاثة أسباب رئيسة تدفع حزب العدالة والتنمية إلى هذه الهوة السحيقة: 1 - اعتقاد حزب التنمية والعدالة بأنه الدولة والدولة حزب العدالة. 2 - وأنه الوريث الشرعي للإمبراطورية العثمانية. 3 - وأن أميركا والغرب وإسرائيل تؤيده وأنه يستحق هذا التأييد بصفته الحزب الإسلامي المعتدل الوحيد في الشرق الأوسط ويصلح أن يكون النموذج الذي يحتذى به لمواجهة الإسلام المتطرف. إذا حللنا هذه الأسباب الثلاثة وفق منظور سياسي معاصر فإن سياسة حزب العدالة والتنمية وفق هذا النمط البائد من التفكير يدخل الدولة التركية في أزمات لا يمكن التكهن بنتائجها وأثبت التاريخ عدم صحة هذه الأطروحات، خصوصاً بعد تغير ديناميات البيئة الدولية في مرحلة ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما فرضته من أدوار جديدة للقوى التقليدية ومنها تركيا. وإذا دخلنا في عمق الموضوع وأخذنا التعامل مع المكون الكردي كنموذج لسياسة حكومة حزب العدالة والتنمية تجاه مواطنيه وذهبنا أبعد من ذلك وفصلنا بين حزب العمال الكردستاني وبقية المواطنين الأكراد ووافقنا جدلاً حكومة أردوغان واعتبرنا أن حزب العمال الكردستاني هو حزب إرهابي وانفصالي كما يزعم، فما ذنب الشعب الكردي الذي يعاني الفقر والحرمان والتهميش منذ ما قبل ظهور الحزب الكردستاني بعشرات السنين ومنذ ما بعده بعشرات السنين؟ وما هو سبب القتل والقمع الذي يطاول المواطنين الأكراد يومياً في ظل حكم حزب العدالة والتنمية وما هو سبب إغلاق حزب المجتمع الديموقراطي الممثل الشرعي للشعب الكردي، وما سبب اعتقال الآلاف من قادة وأعضاء حزب السلام والديموقراطية (الكردي)... الخ. لو فكر حزب العدالة والتنمية لحظة بعقلية الدولة كمؤسسة عامة لمصلحة جميع مكوناتها لفتح الباب أمام حل وطني للمشكلة الكردية حقناً للدماء التركية والكردية على السواء، خصوصاً أن الجانب الكردي وعلى رأسه حزب العمال الكردستاني يسعى بكافة السبل إلى حل المشكلة سلمياً ضمن وحدة البلاد وبالتفاوض وأعلن أكثر من مرة عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد. أعتقد بأن حزب العدالة والتنمية ينفخ في قربة مثقوبة عندما يفكر بإحياء روح الإمبراطورية العثمانية على حساب الشعوب والأقليات المغلوبة مرة أخرى فهذا النوع من التفكير يعتبر شكلاً من أشكال الجنون السياسي وضرباً من الوهم والخيال وهو في النهاية تفكير عبثي لا يقبله العقل والواقع وضحك على الذقون ومضيعة للوقت وليس شرفاً في الألفية الثالثة، ولا يمكن إرجاع الزمن إلى الوراء. إن المصالح الاستراتيجية الأميركية والأوروبية والإسرائيلية تحكم العلاقة مع تركيا وطالما أن لأميركا والغرب مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية في الشرق الأوسط فان تركيا ستظل منطقة بالغة الأهمية والحساسية بالنسبة الى الغرب لجهة الدور المهم لتركيا كنافذة على محاور وبلدان ذات أهمية خاصة بالنسبة الى واشنطن مثل إسرائيل والعراق وإيران وسورية وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان، ولجهة موقع تركيا كطريق عبور رئيس للقوات والمعدات الأميركية المتجهة الى العراق وأفغانستان والشرق الأوسط، خصوصاً إذا قررت أميركا ضرب إيران، وتبقى تركيا طريق عودة رئيس عند خفض أميركا لقواتها في العراق. وكلما كانت تركيا ضعيفة غير مستقرة وغير متصالحة مع مواطنيها تكون استجابتها أكبر للمصالح الغربية، وتأخذ صفة الحليف ذي المواصفات العالية لديهم وهذا هو مربط الفرس. ينبغي أن يدرك المراقب السياسي أنه أمام حزب مخادع يضع مصير شعوب تركيا في أيدي الغرباء ويوظف المقدس الديني في خدمة أغراضه الحزبية الضيقة حيث يصل الاستخدام إلى حد توظيف الدم التركي والكردي في خدمة مصلحة بقائه واستمراريته على رأس السلطة في تركيا. ولو فكر حزب العدالة والتنمية بعقلية الدولة الراشدة ووفقاً لمصالح الشعب التركي بأتراكه وأكراده لتصالح مع شعبه وهو أساس قوة كل دولة.