وصل منهكاً إلى أول الرمل المخلوط بالحصى وبقمامة خلَّفها آخرون، حلم يتحقق أخيراً، ونادراً ما تتحقق الأحلام، منتهاه وصل إليه، غايتُه ترقد بين يديه الآن، هو والبحر وجهاً لوجه. وصل إلى حافة ولادة يوم من يوم آخر. وصل عندما فكرت النجومُ في الذهاب إلى فراشها مبكراً. وصل تاركاً خلفه عائلة متفسخة العلاقات ومزعجة فى صراعاتها التي لا تنتهي. وصل بعدما قال لعمله؛ كلٌ منا لا بد أن يذهب إلى حال سبيله. وصل ولا يشغل باله الآن سوى وصوله. حطَّ بجسده على الرمل وهو يلحظ تغيُراً يسري في وجه العابث طيلة اليوم، تغيراً يوحي بقدوم سعادة طارئة، مفاجئة. تمدَّد إلى الخلف ولم تأخذه لهفةُ لمسِ الماءِ أو رؤية الأمواج. أغلق هاتفه. أغمض عينيه، وأراد للبحر أن يدخله عبر أذنيه وأنفه. أراد الغوص في صوت البحر وفي رائحته بلا تردد. لم يحرك يديه أو قدميه، صار ككتلة حجرية ثابتة في مواجهة الهواء والرائحة والصوت. مرَّت ستُ دقائق، وفي أول ثانية من الدقيقة السابعة قرر فتح عينيه ورؤية السماء من فوقه. وجدها لا تنتظر ضيوفاً ومغلقة أبوابها كامرأة بخيلة. أغمض عينيه مرة أخرى، وهام في ما لا يمكنُ وصفه. أحياناً يصير منغلقاً على ذاته ومحاطاً بجنازير الدنيا. لا يمكن كسرُها إلا إن أراد هو وسمح لنا بالاقتراب من داخله. هو رجل يمكن القول عنه ببساطة – لمن يصرون على معرفة الدوافع وما شابه بحجة رسم الشخصية أو بحجة البناء والصراع الدرامي - كائن يمر بهزائم متتالية، والآن ينتصر للمرة الأولى في حياته من دون مشجعين ومن دون مساعدة من أحد. فى الثانية الثالثة من الدقيقة السابعة عقب وصوله إلى منتهاه، قال: «لم يكن من مفر لفعل هذا». جملة مراوغة، حاسمة، قد توحي بهروبه إلى هنا أو توحي بإقدامه على الانتحار بعد قليل، وقد توحي بأنه غير نادمٍ على فعل ما - خاطئ من وجهة نظر غيره - قبل مجيئه للبحر، وقد تكون مجرد جملة لتأكيد رغبته في رؤية البحر فقط لا غير، وقد... تلك مأساة الكلمات، نقولها وتترتب عليها حكايات كثيرة من دون قصد منا، ليكن! صمتَ ثم قال: «البحر ونس للغرباء وملتقى الهزائم الصغيرة». وهنا كانت يده تحك أنفه كنشوة الحك بالنسبة إلى من يتعاطى مخدرات، وغاب كأنه غير مرئي لمدة ثانيتين. ملابسه تؤكد أنه ميسور الحال، وملامحه تفضحه وتقول أنه غادر العقد الرابع منذ عام أو يزيد بقليل. رجل يداعبه زبد الموج ولا يتجاوب. رجل تحيط به أصوات الماء ولا يبتسم. رجل يعبره هواء البحر والخلاء ولا يحرك ساكناً. هو رجل حزين. هبطت ريح خفيفة وحرَّكت بعضَ أكياسِ البلاستيك الملقاة، فأحدثت أصواتاً مزعجة، فإذا به يطير من حطَّته التي تراوحت ست دقائق وست ثوان، يطير برقدته ويحاول اللحاق بالنجوم قبل نعاسها اليومي، تاركا لي بعضاً من بقايا تفاصيل عن رجل ما التقى وهزائمه وجهاً لوجه بجانب البحر على أول الرمل لحظة ولادة يوم من يوم، أي قبل منتصف الليل بسبع دقائق.