اتجهت وسط أكوام الوحل والمياه ووسط لعب سيوف البرق.. تاركا المخيم... وصلت إلى البلدة كانت أضواء الشارع تبدو في حلة جميلة وقد بدا الاسفلت نظيفا لامعا يعكس الأضواء, لا أحد غيري بالخارج الكل خلد للنوم استعدادا للغد, مازال الشعور بعدم الرغبة في النوم يلازمني.. أخذت أجوب الشوارع باحثا عن لا شيء وهاربا من كل شي,, السكون يعم الطرقات إلا من صوت سيارتي.. المياه نائمة ولكن الإطارات أيقظتها, الأضواء تنتهز الفرص لدخول سيارتي كلما مررت بجانبها لكنها سرعان ما تخرج كما دخلت... هي تبحث عن الدفء لكن ليس لها مكان عندي.. واصلت سيري غير مكترث بصوت القطط.. فتحت في ذاكرتي نوافذ كثيرة أطلت على العديد من الأحداث والصور غير الملونة... وبينما أنا وسط أفكاري وذكرياتي قادني الشوق والحنين ودخلت صدري رغبة قوية في رؤية منزلنا القديم الذي عشت فيه طفولتي, أدرت المقود وتوجهت للمنزل... وصلت هناك, أوقفت سيارتي.. أسكت صراخها بعد أن أغمضت عينيها أخذت نفسا عميقا وغصت في أعماق البيت.. كل غرفة في البيت تحمل ذكرى.. كل زاوية تحمل صورة (بدون ألوان).. غرفة جدتي وماكينة الخياطة . حوش الماعز ورائحته المميزة.. النخلة التي غرضها جدي وسط البيت... آثار أقدامي الصغيرة التي أحدثتها عندما مشيت فوق الأسمنت الرطب بعد وضعه وقبل أن يجف.. الذكريات تملأ المكان.... رائحة طفولتي تعج في زوايا المنزل الهرم, المعيشة المتواضعة.. النفوس الصافية.. أنهيت جولتي لملمت أشلائي التي تبعثرت في أرجاء المنزل اطفأت الأضواء وتوجهت للدهليز.. أغلقت الأبواب وفتحت باب الشارع.. مر أمامي خيالها وطيفها, قلت بسم الله... لكن الخيال ما برح هنا... وكأنها تريد أن تقول: أليس لي نصيب في ذكرياتك هذه الليلة؟؟ تذكرت كل شيء ونسيتني!!! خرجت من الباب. وأخذت أنظر فهاج بوجداني ذلك المشهد الذي طالما حاولت محوه من ذاكرتي ومن دفتر حياتي لكن النقش تصعب إزالته.. نعم إنه الصباح.. النساء يجلسن كالعادة, أطفالهن بجانبهن.. أقف عند الباب بعدما أنهيت استحمامي ألبستني والدتي لباس الروضة وسرحت شعري.. جعلتني أتناول فطوري... لا زال الوقت مبكرا على وصول الباص.. لكن لم يكن الباص غايتي الكبرى.. بل كنت أنتظر وصولها لكي نتبادل أحاديثنا نلعب قليلا.. أستعرض لها قوتي برفس الباب وفتحه من أول ركلة.. أخبرها بأنني أذبح الغنم مع جدي.. وأن أبي سيشتري لي دراجة وإذا كبرت سيبدلها بسيارة وأني أقوى من (قرندايزر) وأن (الرجل الحديدي) صديقي... أحاديث كثيرة وأمور عدة نقوم بها كل صباح ونحن نقف أمام باب بيتنا وحدنا ثم نذهب لركوب الباص... نعم ها هي تقترب وهي في أجمل صورة وأبهى حلة.. رائحة العطر تسبقها ثغرها يعكس شعاع الشمس الهواء يستغل الفرصة ليلهو بخصلاتها... لهفتي عليها تكاد تخطفها من هناك لتحضرها لي بأسرع وقت... تلوح لي بيدها.. تناديني.. جبت لك هدية (مخفية إحدى يديها خلفها), كانت تتبع إرشادات أمها وتسير بجوار جدران المنازل في الطرف المقابل, وصلت إلى بيت بوعدنان وتوقفت لكي تعبر الشارع باتجاهي مباشرة.. ظللت أحدق بها مشتاقا لوصولها قربي.. هي تنتظر ذهاب تلك السيارة القادمة حتى تتمكن من عبور الشارع..... وبمجرد أن مرت تلك السيارة تقدمت هي وسط شوقي وتحرقي لها وأخذت تسير نحوي وهي تلوح لي بيدها التي كانت مزخرفة بالحناء مخفية يدها الأخرى خلفها.. ولم تكن تعلم أن خلف تلك السيارة سيارة أخرى مجنونة.. قذفتها تلك السيارة عاليا ويدها مازالت تلوح لي وألقت بها أرضا.. علت صرخات النساء اللاتي كن هناك... وبكل براءة الطفولة هرعت لأمي بعد أن سددت لبابنا أقوى ركلة نالها مني.. أخبرتها... لبست عباءتها... خرجت متعثرة... وصلنا لها كانت على الأرض بكاء النساء يلفها.. الدماء تخرج من فمها وأنفها.. يدها مقفلة على شيء ما.. حملتها أمي للداخل وهي تبكي وأنا وراءها.. كنت وسط ذهول غريب.. حملوها ليذهبوا بها للمستشفى... سقطت من يدها قطعة حلوى.. التقطتها.. كانت معجونة بعض الشيء من شدة قبضتها.... عادوا من المستشفى بعد أن أعلمهم الطبيب بأن روحها فارقت جسدها وليعدوا أكفانها.. لم آكل أي شيء أصابتني حالة فزع وخوف وبكاء.. رفضت أن أصدق فكرتهم بأنها ذهبت إلى الجنة وقلت لهم خذوني لها هناك.. عاني الأهل معي.. لم أكن أنام جيدا كنت خائفا... هي لا تفارقني... أراها في أحلامي.. الحلوى لا تزال معي... عدت للذهاب إلى الروضة: أقف في الصباح عند الباب... لا أنتظر سوى الباص.. لا يوجد من أرفس أمامه الباب... لا أحد يجلس بجانبي داخل الباص.. النساء ينظرن إلي بشفقة.. كيف ستكون الروضة ممتعة .. كيف سأذهب وحيدا وأرجع وحيدا.. هل فعلا هي لن تعود؟ .. من سيخرج معي يوم (القرقيعان)؟... من سيجوب معي الأزقة في الأعياد؟.. من سيركب معي دراجتي؟.. عندما يشتري لي أهلي لعبة من سيعطون الأخرى؟... مع من سألعب عندما أذهب لمنزلهم برفقة أمي؟.. من الذي سيتقاسم معي علبة الحلوى؟.. من الذي سيعيب علي سمار لوني؟.. من الذي سأشد شعره؟.. من الذي سيذهب معي للدكان؟.. من... ومن.. أسئلة كثيرة تجول في ذهني الصغير ولا أجد إجابة غير بكاء أهلي عندما أهذي لهم بهذه التساؤلات... صحوت من هذا المشهد غير الملون.. (فقط هناك لون الدم والحناء وشريطة شعرها الحمراء) وقد اختلطت دموعي بنغمات صوت المطر الذي بدأ يهطل... توجهت لسيارتي... كفكفت أدمعي.. أدرت المحرك.. انطلقت. حضرت في ذهني صور كثيرة لها وهي ترتدي المريول ولم يغب عني سحرها ترتدي البخنق يوم القرقيعان.. أخذت استعرض ملامحها في ذاكرتي فأدركت أني قد نسيت بعضها.. وتحيرت في لون شعرها وعينيها.. آه لقد تذكرت يوجد لدينا صورة لها انطلقت مسرعا نحو المنزل .. ركنت السيارة.. دخلت مهرولا قدماي تسبقاني المطر يبللني.. وصلت للداخل بحثت عن ألبوم الصور القديمة وجدته نفضت غباره قلبت صفحاته.. البعض مفقود تمنيت ألا تكون ضمن المفقودات,,, أخيرا وقعت عيني عليها اختطفتها رميت الباقي.. اضأت مصباحا قويا وأخذت أنظر لصورتها محاولا التعرف على لون شعرها... ولكن!!! مع الأسف كانت الصورة (بدون ألوان)...