تسارعت ردود الفعل الدولية بعد إحكام روسيا قبضتها على شبه جزيرة القرم، حيث دانت القوى الغربية الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو، إضافة إلى الولاياتالمتحدة الأميركية، الخطوة التي أقدمت عليها موسكو، ووصفتها بأنها خرق للقانون الدولي وعدوان على دولة مستقلة، ويجب التراجع عنها. بينما تفهمت الصين التحرك الروسي، وأعلنت أن موقف الجانبين، الروسي والصيني، متطابق ومتفق. هناك انقسام واضح في مواقف القوى الدولية مما حصل، وهذا مؤشر إلى حالة التأزم التي باتت تصبغ السياسة الدولية. فبعد مرور نحو 24 سنة على انتهاء الحرب الباردة شهد النظام الدولي فترة كانت أقرب إلى أحادية القطب، سيطرت خلالها واشنطن على مفاصل السياسة الدولية، مستغلةً في ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي وضعف القوى الدولية الأخرى، كالصين مثلاً. لكن تلك الوضعية الدولية كانت مرحلة تحول دولي ما لبثت في التلاشي في السنوات القليلة الماضية، مع تعافي روسيا والبروز السريع للصين، والذي تزامن مع تراجع ملحوظ لأميركا بعد أن أنهكتها حربي أفغانستان والعراق، والأزمة الاقتصادية العالمية، حيث تزايدت ديون أميركا حتى وصلت نحو 16 تريليون دولار. ومع أن أميركا لا تزال الدولة الأقوى عالمياً وفقاً لمعايير القوة المختلفة، الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتقنية، إلا أن بروز قوى جديدة، بخاصة روسياوالصين أصبح يشكل تحدياً صريحاً للوضعية الدولية التي سادت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. ما حصل في شبه جزيرة القرم، وقبل ذلك في سورية، يدل على أن النظام الدولي يتجه نحو حالة من التأزم والاستقطاب؛ فالقوى الغربية استغلت ضعف روسيا في العقدين الماضيين وتوسع حلف الناتو حتى وصل إلى الواحة الخلفية لروسيا من خلال ضم مجموعة من دول أوروبا الشرقية سابقاً، بل أن أوكرانيا نفسها تحاول اللحاق بركب الاتحاد الأوروبي، وقد عملت أميركا على تحفيز هذا التوجه في السنوات القليلة الماضية من خلال العمل مع بعض القوى السياسية الأوكرانية المتعاطفة معها. من ناحية أخرى، حاولت أميركا محاصرة التمدد الصيني من خلال سياسة «الاستدارة نحو آسيا» التي بدأت إدارة أوباما بتطبيقها أخيراً، وسعت من خلالها إلى نسج علاقات تعاون عسكري واقتصادي مع الدول الحليفة لها في الشرق الآسيوي والمحيط الهادي، مثل الفلبين وسنغافورة وكوريا الجنوبية وأستراليا. إن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذا الوقت يدور حول ما إذا كان النظام الدولي على شفير حرب باردة أخرى. وفي هذا السياق يمكن القول إن الحرب الباردة مصطلح يصف وضعية أو حالة تكون السياسة الدولية فيها على قدر كبير من التأزم والاستقطاب، تسخّر فيها الدول المتنافسة مواردها المتاحة وتقيم التحالفات لمواجهة الطرف الآخر، لكن من دون أن يقود ذلك إلى الاستخدام الصريح للقوة، وإلا تحولت إلى حرب ساخنة أو صريحة. وهكذا يمكن القول إن الحرب الباردة تصف وضعية دولية معينة لا يجب حصرها على حالة تاريخية معينة أو التعامل معها كحالة ماضوية، إذ يمكن حصولها مجدداً لكن وفق منطق دولي مختلف. فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإذا أعاد نفسه فوفقاً لشخوص ومعطيات ونتائج مستقبلية مختلفة عن السابق. وبغض النظر عن النتائج التي ستؤول إليها أزمة شبه جزيرة القرم إلا أنها دللت وأكدت أن النظام الدولي بدأ أخيراً يشهد حالة انقسام وتأزم لا تزال في بدايات تكونها لكنها تشي بظهور محور روسي- صيني، قد تنضم إليه مستقبلاً قوى من الدول النامية، وأصبحت تأثيرات هذه الحالة تنعكس على كل أزمة تحصل من دون قصر ذلك على منطقة دون أخرى؛ الأزمة السورية كانت في الشرق الأوسط، بينما تقع شبه جزيرة القرم في أوراسيا، ومع ذلك كان الموقفان الصيني والروسي متسقين في كلتا الحالتين. ولهذا التأزم في النظام الدولي حتميته التاريخية نظير الترتيبات التي تمت بعد انتهاء الحرب الباردة وتغير موازين القوى الدولية في السنوات الأخيرة، لكن يمكن القول إن السياسة الخارجية «الرخوة» التي انتهجتها إدارة إوباما، مهما كان لها ما يبررها في الداخل الأميركي، إلا أنها ساعدت القوى التي تنافس أميركا على انتهاج سياسة خارجية انتهازية وتوسعية، وزاد من النتائج السلبية لها أنها شكلت تراجعاً ملحوظاً في النفوذ الأميركي بعد فترة من التوسع الجامح والشرس في مناطق عدة من العالم، بخاصة وسط آسيا والشرق الأوسط. * كاتب سعودي