لأول مرة منذ العام 1986، بدا "الغرب" متحداً في مواجهة روسيا. لم تعد صواريخ "بيرشينغ" إلى غرب أوروبا، لكن الدبلوماسية عادت لتوحّد خطابها حيال السياسة الروسية، بل وتوحد خياراتها "الرادعة". ربما راهن الروس على انقسام ضفتي الأطلسي، على النحو الذي تكرر مراراً بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن هذا الرهن بدا في غير محله. وربما تفاجأ الكرملين، لكن خط الرجعة لا يبدو يسيراً هو الآخر. وفي الأصل، قد لا يكون ذلك وارداً، استناداً إلى رزمة الحسابات الجيوسياسية المعقدة، التي تكتنف الصراع الدائر بين روسيا والغرب، من جنوب القوقاز إلى وسط أوروبا، وصولاً إلى أميركا اللاتينية، بل والشرق الأوسط أيضاً. لم يكن من السهل توقّع وحدة الخطاب الغربي هذه، لكن ما لم يكن سهلاً أيضاً هو قرار الكرملين الاعتراف "بجمهوريتي" أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، عقب "حرب غير متكافئة"، كما وصفها الغربيون، أو "عدوان جورجي" كما عرّفه الروس، ومعهم الأوسيتيون والأبخاز.. صعوبة هذا القرار اعترف بها الروس أنفسهم، فهم يدركون طبيعة البيئة الراهنة للنظام الدولي، وهذا أمر مفهوم. لقد أجمع الأميركيون والأوروبيون على القول إن روسيا تسعى لإعادة رسم خارطة أوروبا الجيوسياسية، استناداً إلى قوتها المسلحة.فضلاً عن كونها "تستولي" على أراضي دولة ذات سيادة. في المقابل، رأى الروس أن قرار الاعتراف بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا "كجمهوريتين مستقلتين" أولدته "ضرورات القانون والتاريخ والأخلاق"، كما عبر وزير خارجيتهم سيرغي لافروف.أما مرسوما الاعتراف "بالجمهوريتين"، فقد أحيطا بعبارة تقول إن روسيا اتخذت قرارها بهدف حماية السكان المدنيين الأبخاز والأوسيتيين. وفي تعليقها على التطوّرات، قالت وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس إن "ما حدث في جورجيا جعلنا نتراجع خطوة إلى الخلف، ونتجه لإجراء دراسة، متعمقة واقعية، حول ما إذا كانت روسيا مستعدة حقاً للسير في طريق من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من الاندماج في الأسرة الدولية".ورأى الأميركيون أنه مع مرور كل يوم، تضاعف روسيا الضرر الذي تعرضت له مكانتها الدولية، من خلال تكرارها "رفض الوفاء" بالتعهدات التي قطعتها بسحب قواتها من الأراضي الجورجية، وفق اتفاقية الهدنة السداسية البنود. أما وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، الذي رعت بلاده الاتفاق السداسي، الذي جرى بموجبه وقف إطلاق النار، فقد قال: "نحن لا نستطيع أن نوافق على انتهاك فظ للقانون الدولي، واتفاقيات منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وقرارات منظمة الأممالمتحدة". وذهب كوشنير للقول: إن روسيا ربما تكون لها مطامع في مناطق أخرى، مثل شبه جزيرة القرم الأوكرانية وجمهورية مولدافيا. وجاء الموقف الغربي الأكثر حدة من بريطانيا، التي دعا وزير خارجيتها، دافيد ميليباند، إلى تشكيل تحالف دولي لمواجهة "عدوان روسيا في جورجيا".مشيراً إلى أن بريطانيا تدعم استقلال ووحدة أراضي جورجيا "اللذين لا يتغيران بأمر من موسكو". وعلى الرغم من ذلك، فإن الرهان يبقى صعباً ،وفائقاً في تحدياته، بالنسبة للأطراف كافة، في الغرب وفي روسيا ذاتها. لا أحد يريد حرباً باردة جديدة، لكن هذه الحرب "الجديدة" قد وقعت، والحديث يجب أن يكون عن كيفية إدارتها، لا عن إثبات وجودها من عدمه.والأصح، أن هذه الحرب أخذت مساراً متقدماً، لأنها في الأصل كانت قد بدأت في اليوم الذي ضم فيه حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى صفوفه جمهوريات البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا. روسيا لا تمتلك اليوم كثيراً من الخيارات، والغرب كذلك. والروس والأطلسيون هم نظرياً "شركاء في تحقيق السلام"، في عالم ما بعد الحرب الباردة، أو الأصح ما بعد الثنائية القطبية.وهناك اليوم مجلس روسيا - الناتو، وهناك بعثة روسية دائمة في مقر قيادة الحلف في بروكسل، إضافة إلى مكتب عسكري، في مقر قيادة العمليات التابع للقيادة العليا لقوات الحلفاء في أوروبا. ومن جهته، يحتفظ الناتو بمكتب اتصال عسكري، ومكتب معلومات في موسكو.وهناك سبع عشرة هيئة فرعية تعمل تحت مظلة مجلس الناتو - روسيا. وهناك تعاون مشترك في مجال الإصلاحات الدفاعية، وعمليات البحث والإنقاذ البحرية، إضافة إلى مشروع جماعي لتدريب موظفين من أفغانستان وآسيا الوسطى على مكافحة المخدرات. كذلك، وقعت روسيا اتفاقية، في إطار الشراكة من أجل السلام مع الناتو، تسمح لألمانيا وفرنسا باستعمال ممرات آمنة عبر أراضيها للوصول إلى أفغانستان. وإثر حرب القوقاز الجديدة، علقت روسيا نشاطها في مجالات حفظ السلام مع الناتو لمدة ستة أشهر "على الأقل". وكان الصراع المجمد في مولدافيا، حول إقليم دنيستر، قد مثل أول عملية حفظ سلام تشارك فيها روسيا ودول الناتو على قدم المساواة. بيد أن هذه العملية لا تتطلب سوى جيش محدود القدرات، وقوة شرطة لا يتجاوز عدد أفرادها بضع مئات. ولعل روسيا قد اختارت تجميد ما هو أقل أهمية في تعاونها مع الناتو، لتلوّح بورقة ضغط أكثر أهمية، هي أفغانستان، أو لنقل الممر الروسي إلى أفغانستان، أو ما يعرف بالمسار الشمالي، الذي ينقل عبره العتاد الثقيل للقوات الأطلسية. ولدى الناتو حالياً ممران (عاملان) لنقل العتاد إلى أفغانستان، وكلاهما عبر باكستان.ويُعتقد أن المسار الشمالي هو المسار المحبذ لقوات الناتو، لكونه مساراً قصيراً وآمناً. وأياً يكن الأمر، لا يبدو أن روسيا في وارد إعادة النظر على نحو كلي في اتفاقاتها مع الناتو، لأنها تدرك مدى الحاجة المشتركة إليها. وبدوره تحاشى الناتو، اعتماد لهجة تصعيدية مع الروس، وتجنب أية إشارة لإمكانية تسريع انضمام جورجيا إلى عضويته، والأمر ذاته بالنسبة لأوكرانيا.هذا مع صحة القول إن هاتين الدولتين قد تباشران رسمياً السير في مسار عضوية الحلف في نهاية هذا العام،ففي قمته الأخيرة في بوخارست، ترك الناتو إمكانية انضمام جورجيا وأوكرانيا إليه مفتوحة زمنياً، إذ لم يرفض قبولهما مبدئياً. وعلى الرغم من ذلك،فإن دخول السفن الأطلسية للبحر الأسود، بعد الحرب الأخيرة في القوقاز، قد أثار روسيا، التي لم تتأخر في انتقاد الناتو، وتذكير الغرب والعالم بأن هذا البحر هو "تحت سيطرة أسطولها على نحو كامل وتام". وبالعودة إلى حرب القوقاز ذاتها، فقد بدا لافتاً تصريح المندوب الأميركي في الناتو، كورت فولكر، الذي قال إن الولاياتالمتحدة حذرت جورجيا من محاولة استعادة أوسيتيا الجنوبية بالقوة، وإن هذا التحذير استمر حتى عشية اندلاع الحرب في ليل السابع من آب/ أغسطس. ومن جهته، رأى مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ريتشارد آرميتاج، بأنه قد تم تجاوز روسيا عندما قام الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي بمحاولة استعادة أوسيتيا الجنوبية بالقوة، معتقداً أنه حصل على ضوء أخضر أميركي.ورأى آرميتاج أن ساكاشفيلي أساء الفهم، وأن الولاياتالمتحدة لم تعطه الضوء الأخضر لشن الحرب. وأياً تكن السياقات، فنحن اليوم أمام واقع جديد، فثمة "دولتان" كرّستا استقلالهما الفعلي، أو استقلال الأمر الواقع، بعد قرار روسيا الاعتراف بهما. وهذه الأخيرة هي أكثر من تحتاجه هاتان "الدولتان" لبناء مقومات وجودهما، إنء لاعتبارات الجغرافيا والتاريخ، أو لشدة التداخلات الاقتصادية والأمنية. وحسب وسائل الإعلام الروسية، فقد كلف الرئيس الروسي، دميتري ميدفيديف، وزارة الخارجية الروسية بدء محادثات لإقامة علاقات دبلوماسية مع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.وإعداد مسودتي معاهدتين "للصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة" بين روسيا وأبخازيا، وبين روسيا وأوسيتيا الجنوبية. كما كلف ميدفيديف وزارة الدفاع "بحفظ السلام في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية" بواسطة القوات المسلحة الروسية، وذلك لحين توقيع المعاهدتين المذكورتين. أما سلطات أبخاريا، فأعلنت أنها تقدمت بطلب لبناء قاعدة عسكرية روسية في أراضيها، بهدف "ضمان أمنها". إن الأشهر القادمة قد تحمل الكثير على طريق تثبيت وجود هاتين "الدولتين"، استناداً إلى الراعي الروسي.وحتى في حال امتناع أي من دول العالم الأخرى عن الاعتراف بهما (وهناك حديث يدور عن إمكانية اعتراف كوبي وفنزويلي)، فإن هناك بلداناً عديدة قد تبني أشكالاً مختلفة من التعاون غير الرسمي، وربما غير المعلن، مع الأبخاز والأوسيتيين الجنوبيين.ومن أبرز هذه الدول الصين. وفي المقابل، علينا أن نتوقع ارتفاعاً في سخونة الموقف الغربي من روسيا، وزيادة الضغوط السياسية والاقتصادية، بل والنفسية، عليها. وعلينا أن نتوقع أيضاً زيادة في الإجماع الغربي حيال روسيا ما بعد حرب القوقاز.