أقل شيء يمكنني أن أصف به الكاتب السوداني النوبي الساخر، ذا الحرف الماهر، والقلم الماكر والجفن الساهر، الساحر جعفر عبّاس، أنه في الحياة الحقيقية، الشخص نفسه الذي نقرأ له مقالاته بتطابق مثير!... حيث إنني ومن معاشرتي لعديد من كتّاب المقالة والكتب، لم أجد فيهم من يمتلك شخصيّة مطابقة لما أقرأه عنه فيما بين كلماته، مثلما وجدت في شخصية «أبو الجعافر»! وبغض النظر عن ابتسامات المجاملة، وقهقهات الخروج من الملل التي نتصنعها أحياناً، من عادتي ألا يضحكني أي شيء، بل وإن ضحكت ضحكة حقيقية من الأعماق، فأضحك على كوميديا الموقف وكوميديا السخرية من الواقع التعيس، أكثر مما يضحكني أراجوز أو مغفّل يصطنع السقوط والغباء، مثلما نرى في 99 في المئة من أفلامنا ومسلسلاتنا في الآونة الأخيرة! وجعفر عبّاس، هو إنسان شديد الثقافة لدرجة تشعرك بنوع من الهيبة عندما يبدأ بالاسترسال عن ماضيه العملي والمهني والثقافي، وسرعان ما يرمي في ثنايا حديثه كلمة، تجعلك تنسى هذه الهيبة، وتتبع نسيانك بقهقهة من الأعماق، يشاركك هو فيها بطريقة تجعلك تضحك أكثر وأكثر. جعفر عبّاس، فنّان في إضحاك العقل والفكر بعفوية ذكيّة، وليس فقط إضحاك الشفاه! وهو بالقدرة الأدبية والفنيّة يجعلك تستمع لقصّة مأسوية حقيقية، وفي الوقت نفسه، يستخرج منها من أوجه السخرية ما لا يخطر لك على بال! فهو بالواقع، فنّان كلمة بالفطرة! لديه مخزون هائل من المعاني والحروف التي تخرج منه مرتّبة، وكأنه يقرأ من كتاب شبيه لكتاب كليلة ودمنة! أبو الجعافر، قد يكون هو أفضل من يمدحك بألفاظ ومفردات أقرب ما تكون من الألفاظ النابية، وهو أفضل من يذمّك بألفاظ ومفردات أقرب ما تكون من ألفاظ المدح والثناء! فالمتلقّي يحتاج لفطنة حادة، ليعرف ما إذا كان أبو الجعافر يمدحه... أو يذمه! فلا تستعجل برد الشتيمة والمذمّة عليه، حتّى تحسب معاني مفرداته جدياً وبكل دقة وبالآلة الحاسبة! ولا تستعجل لشكره على مدح وثناء حتّى تفتش بين ثنايا مفردات المدح جيّداً، فلعلّك تجد لغماً لغوياً يطيرك بستين ألف داهية.. وقد تمتعت كثيراً وأنا أسمعه يمارس ذاك النوع من المدح المشبوه، في حق صديقه اللدود الكاتب نبيل المعجل! بل وتمّمت عليه بكلمة «يستاهل أبو فيصل...». لقد شرّفني جعفر عبّاس في زيارة قصيرة لي في بيتي المتواضع، عندما كان في زيارة قصيرة في الأيّام الخمسة الماضية لمدينتي الدمام والخبر، وانتهزت الفرصة لدعوة بعض الأصدقاء ليتمتعوا بزيارة هذا الفطحل الأدبي الكبير لي. وهم بالفعل تمتعوا وهم يستمعون لبعض مواقفه وآرائه التي لم تخلُ من الطرافة الشديدة في كثير من جوانبها. عندما نعلم أن جعفر عبّاس لم يبدأ بإجادة اللغة العربية إلاّ عندما كان في سن الثانية عشرة من عمره، وأنّه بدأ حياته متحدثاً باللغتين الإنكليزية والنوبية فقط، ونعلم أنه من أوائل من عملوا في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، ونعلم أنه من قدامى موظفي شركة أرامكو ممن عملوا كمترجمين في بداية السبعينات الميلادية، ومن ثم عمل في كثير من الصحف السعودية والخليجية، ومن ثم في مركز قيادي كبير في قناة «الجزيرة» القطرية، نعرف أمرين مهمين: أولهما: أن الشعر الأبيض الذي على رأسه، كان في يوم من الأيام ضحية للصبغ الأسود، لأن رجلاً لديه هذا التاريخ، لا بد أن يكون في سن تجعل شعره مطابقاً للون الثلج! وثانيهما: أنني عندما جالست جعفر عبّاس، فقط جالست تاريخاً عريقاً من الأدب والثقافة، وبحراً غزيراً من أدب السخرية وخفة الدم العفوية الفطرية، بل وجالست إحدى القمم العالية من قمم المهنية والاحترام.