ضمن احتفاليّة اسطنبول عاصمة للثقافة الأوروبيّة لعام 2010، أقيم مهرجان الأفلام السينمائيَّة الشهر الماضي وشارك فيه نحو 50 فيلماً قصيراً، وروائياً طويلاً، ووثائقياً. واللافت أن بين تلك الأفلام، ما كان كرديَّاً صرفاً، ومنها ما كان عن الأكراد. من الأفلام، غير الكرديَّة، وعن الأكراد، فيلم «الجريح أدرى بجرحه» (فليم إنكليزي)، لمخرجه ألان ديلان. وفيلم «كردي»، (إنكليزي) أيضاً، لمخرجه دووغ أوبراي. أمَّا الأفلام الكرديَّة الخالصة، فمنها، «أرض الشتاء»، لحسام زمان، و «كوي (القرية)» لمصطفى دوك، و «دانك (الصوت)» لفيليز إيشيك بولوت. ولئن كان من العسير الحديث عن حركة سينمائيَّة كرديَّة، راسخة في تركيا، لأسباب سياسيَّة واقتصاديَّة، لا يتسع هذا المقال لذكرها، إلّا أن ثمة، والحقُّ يُقال، نشاطاً لافتاً، للمخرجين الشباب الأكراد في تركيا. إذ لا تكاد ترى كاتباً مسرحيّاً، أو شاعراً، أو مخرجاً، إلّا ويتحدّث لك عن تحقيقه فيلماً أو اثنين، وثائقياً أو طويلاً. سيرة مهاجر فيلم «كردي»، لمخرجه الإنكليزي دووغ أوبراي، هو عبارة عن شريط وثائقي، مدَّته حوالى 80 دقيقة، يرصد سيرة حقيقيَّة لشاب كردي سوري (بيري)، هاجر إلى أوروبا، عبر لبنان. وهذا الشاب، كان يوماً ما، ضمن البيشمركه (المقاتلين الأكراد في كردستان العراق)، ثم انتسب إلى الغيريللا (المقاتلين الأكراد في كردستان تركيا). والآن، هو متزوّج، وأب لطفلتين، ويقيم في اسكتلندا. قبل أي شيء يسعى الفيلم، الى رصد سيرة الأكراد، واضطرارهم لحمل البنادق، بحثاً عن الحريَّة، ودفاعاً عن النفس، ضدّ حملات القمع والصهر والاقتلاع العرقي، في العراق وتركيا. ويبدأ الفيلم من كردستان العراق، وينتهي، في المعسكرات السابقة لحزب العمال الكردستاني، في سهل البقاع اللبناني، التي كان بيري، يتدّرب فيها، ذات يوم. فرادة الفيلم، تكمن في أنّه لا يقوم على أيّ سيناريو، أو أي سياق يضبط تراتبه، إذ نراه نازعاً للارتجال. فحتّى بعض المواقف العاديّة والعابرة، التي يتعرَّض لها طاقم الفيلم، أثناء التصوير، تمّ الإبقاء عليها. وعليه، طغت على فيلم «كردي» العفويّة والتلقائيَّة، إنما من دون أن ينزلق نحو فوضى المَشاهد، والعبثيَّة والاعتباط. وحافظ على العمق. ويمكن القول: إنّ الفيلم، جنح إلى الدعاية للقضيَّة الكرديَّة، وسعى لرفع تهمة الإرهاب عن «العمال الكردستاني» خصوصاً، وعن النضال الكردي، عموماً. ليس هذا وحسب، بل إن بيري، مرر عبارة، خطيرة، في سياق الفيلم، مفادها: «إذا اجتاحت تركيا مجدداً كردستان العراق، سأعود لحمل البندقيَّة ضدّها». كما لم يخلُ الفيلم من المواقف واللحظات الإنسانيَّة، في علاقة بيري مع طفلتيه، ورفاقه السابقين، وأثناء استحضار ذكرياته، وهو يمرّ في الأماكن التي مرَّ بها سابقاً. نهاية الفيلم، كانت لحظات مفعمة بالغربة، والألم والأسى، فيما بيري، يعيد مشاهدة الشريط، على كمبيوتر محمول، وتجيش في داخله الأحاسيس والمشاعر، والحنين للماضي، فتدمع العينان. بالنتيجة، أتى فيلم «كردي»، وثائقيَّاً، دعائيَّاً للكفاح الكردي في تركيا والعراق، على وجه الخصوص. لذا، أثناء عرضه في الصالة، خرج بعض القوميين الأتراك، ولم يكملوا مشاهدة الفيلم، إذ لم يرتاحوا لمشاهدة الدعاية للنضال الكردي، حتّى لو من شخص أجنبي! وما إن انتهى الفيلم، حتّى خرج قسم آخر، ولم ينتظروا جلسة الحوار مع المخرج. وحتّى أثناء مناقشة الحاضرين مخرج العمل، كانت الأسئلة، استفزازيَّة، طغت عليها النبرة القوميَّة، ولم تكن لها أيّة علاقة بالفيلم، وركّزت على موقف المخرج، كإنكليزي، من النضال الكردي، وتحديداً «العمال الكردستاني»! وبدا المخرج، مهادناً، بل جانحاً للجبن، خلافاً لفيلمه، حين سعى لإرضاء الأتراك، بقوله: «كما تعلمون، إن العمال الكردستاني، مدرج على لائحة المنظمات الإرهابيَّة في بريطانيا»، في محاولة لتبرئة نفسه عن التضامن مع النضال الكردي! والحق انه كان من الغرابة إدراج هكذا فيلم دعائي صارخ للنضال الكردي، ضمن المهرجان. وبحسب بعض المراقبين، لأنّ المخرج بريطاني، وليس كردياً، ولأن المهرجان، هو في إطار اسطنبول عاصمة للثقافة الأوروبيَّة، ولأن الفيلم شارك في مهرجانات أوروبيَّة عدَّة، ربما كل هذا، جعل من العسير والإحراج رفض الفيلم، لكونه دعائياً لمنظمة محظورة، تقود صراعاً مسلَّحاًً ضدّ الدولة منذ 1984. التعذيب عن بُعد فيلم «دانك»، (ويعني بالعربيَّة، الصوت)، كان من ضمن الأفلام القصيرة، التي تمّ عرضها. أخرجته فيليز إيشيك بولوت. وشاركها زوجها صلاح الدين بولوت، في كتابة السيناريو، ومثَّل في الفيلم أيضاً. وتدور أحداثه عام1981، حول حياة أسرة كرديَّة فقيرة، تسكن بيتاً، يجانب سجن ديار بكر الرهيب، بعد انقلاب 12 أيلول العسكري عام 1980. وسكَّان البيت، وهم رجل وامرأة، وطفل وطفلة، ينامون ويصحون، على صوت الأناشيد القوميّة العنصريَّة التي يرددها الجنود في السجن، وعلى أصوات التعذيب، وصراخ المساجين، تحت التعذيب، وشتائم الجلادين أثناء التعذيب. ناهيك عن أن المنزل، ولأنّه بقرب السجن، يتحوّل إلى مضافة لعوائل السجناء كل أسبوع. وهنا يرصد الفيلم، أحاديث الأهالي، قبل بدء الزيارة، ونحيب وعويل وبكاء النسوة والأمّهات، بعد عودتهن من الزيارة، وحديثهنّ عن أولادهنّ وإخوتهنّ، إذ لم يعد في إمكانهنّ التعرّف إليهم، من شدّة التعذيب الذي تعرَّضوا له. الفيلم، يرصد، وبتكثيف، كل هذه الحالات الإنسانيّة، والأكثر إيلاماً، هو الرعب الذي تخلقه صرخات المساجين، حين يسمعها الطفلان في الليل، فيصابان بالهلع والارتجاف من الخوف. ما يجبر الأب على ربط أذانهما بخرق من القماش، حتّى يمنع عنهما هذه الأصوات. تشتكي المرأة، من بؤس هذه الحال، وتطالب زوجها، الذي لا حول له ولا قوّة، بإيجاد حلّ، والرحيل من هنا. لكنّ المرأة، سرعان ما تتخلّى عن خيار الرحيل، حين تتذكّر محنة أهالي السجناء، لو غادروا المنزل، مَن سيعتني بهم؟! وكأنّ هذه الأسرة، ترضخ لقدر أن يكون بيتها الصغير، تتمّة، أو ملحقاً بالسجن. الفيلم قوي من حيث الفكرة، والمعالجة والتناول. لكنّ علَّته أنّه صوّر بكاميرا وحدة. ناهيك بأن الحوار بين الشخوص كان يشوبه التراخي والبطء. ولكنه أوّل عمل للمخرجة فيليز إيشيك بولوت. جدير بالذكر، أن زوج المخرجة فيليز بولوت، صلاح الدين بولوت، قضَى 8 سنوات في سجن ديار بكر (كبرى المدن الكرديّة جنوب شرق تركيا)، حيث اعتقل على خلفيّة انتمائه لحزب كردي عام 1981، وأخلي سبيله عام 1989.