أوزكاتش قرية تركية لا تبعد سوى كليومترين عن الحدود مع بلغاريا. الوضع في البداية لم يكن يوحي بوجود أي حال غير طبيعية تبعث الخوف في نفوس مواطنيها المسالمين، لدرجة أنهم لم يلاحظوا أن مئات الغرباء يدخلون قريتهم الصغيرة في كل يوم من دون أن يمكثوا فيها طويلاً في طريقهم إلى أرض الميعاد الأوروبية مخاطرين بحياتهم وهم يحاولون اجتياز الحدود البلغارية. أوزكاتش تحولت في الربيع الماضي إلى مكان مفضل للفارين الايزيديين من فتك «داعش». لكنها لم تكن حكراً على الايزديين الباحثين عن الحياة الآمنة، فلقد وطأ أرضها عراقيون من العرب والأكراد وكذلك الأفغان والباكستانيين الفارين من «طالبان» والذين في غالبيتهم يضطرون في نهاية المطاف للعودة خائبين من حيث أتوا بعد أن تكتشفهم قوات الجندرمة التركية أو يقبض عليهم حرس الحدود البلغار. زاهد ايزيدي عمره 16 سنة حاول مع أربعة من أبناء طائفته المنكوبة التسلل إلى بلغاريا في طريقه نحو من يحتضنه في أوروبا. يحكي زاهد قصته ويقول: «استلقينا أنا ورفاقي في الرحلة بين الأحراج للراحة قليلاً قبل مواصلة المشي في الغابات التي تفصل بين حدود الدولتين، غلبنا النوم من الإرهاق والتعب، واستفقنا فجراً في حدود الساعة الرابعة على ركلات ارجل عناصر حرس الحدود البلغار الذين أوسعونا ضرباً بالهراوات، ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا منا ما في حوزتنا من نقود وأجهزة الهاتف، وحتى قناني المياه والملابس التي تقينا من البرد القارس، ودلونا على الطريق الذي يجب أن نسلكه للعودة إلى الأراضي التركية». زاهد وجماعته كانوا من المحظوظين، لأن الآخرين وقعوا في قبضة حرس الحدود البلغار وكانت نهايتهم فاجعة. دليل مراد الياس (35 سنة)، ومحمد داود كاظم (30 سنة) عثر عليهما ميتين. الياس وكاظم لم يكونا وحدهما في مغامرتهما اجتياز الحدود بصورة غير شرعية، كانت معهما مجموعة صغيرة من أقاربهما الذين تمكنوا من الإفلات من الموت بأعجوبة بعد وقوعهم صيداً ثميناً للذئاب الجائعة من حرس الحدود البلغاريين. جريدة «دنفنيك» البلغارية المعروفة بتوجهها الليبيرالي روت قصتهم في تحقيق أثار ضجة في أوساط منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني في بلغاريا وأوروبا. قال هؤلاء إن حرس الحدود البلغار تعاملوا معهم بوحشية مفرطة وضربوهم كأنهم حيوانات مفترسة وسرقوا كل ما لديهم من مبالغ، وخلعوا حتى أحذيتهم وكنزاتهم وملابسهم وتركوهم نصف عراة في البرد القارس، وهو ما تسبب في عدم قدرة الياس وكاظم على مواصلة الطريق في اتجاه أقرب القرى التركية الحدودية بغية الحصول على الإغاثة الطبية. الصحف التركية هي الأخرى تحدثت عن هذه الجريمة، وبثت فضائية «فرانس 24» في نشراتها الإخبارية ريبورتاجاً صوره مراسلوها بكاميرا خفية عن بعد يظهر مجموعة من حرس الحدود البلغار وهم ينهالون ضرباً بالهراوات على مجموعة من طالبي اللجوء بعد أن طرحوهم أرضاً على بطونهم وربطوا أيديهم بالسلاسل. السلطات التركية المحلية في قريتي أوزكاتش وآخيكيوي أكدت صحة الواقعة لمراسلي الصحف. كاظم طالب يدرس هندسة الكومبيوتر، ارجع تقرير الطب الشرعي سبب وفاته إلى ضربات قاتلة جعلته غير قادر على الحركة ما دفع زميله في الدراسة الجامعية الذي يرافقه في رحلته السرية علي عصام محمد إلى حمله لمسافة عدة كيلومترات على ظهره، ولكن ذلك لم ينجه من الموت، إذ لم تنفع محاولة محمد إيصاله إلى مركز قوات الجندرمة التركية التي وصلت متأخرة إلى المكان. التقرير الطبي أشار أيضاً إلى «أن جسد الضحية كان مهشماً». فظائع أوروبية شرقية سكان القرى الحدودية التركية مع بلغاريا يتحدثون عن مشاهدتهم بصورة دائمة على الطريق المؤدية إلى الحدود قناني مياه فارغة وملابس ممزقة وأحذية مهترئة، ويقولون انهم غالباً ما يعثرون على لاجئين في أوضاع يرثى لها تكشف عن تعرضهم إلى العنف المفرط على أيدي الحرس البلغار. أحمد (46 سنة) ومحمد (35 سنة) و(نادر 35 سنة) الثلاثة أكراد سوريون تبخرت آمالهم في الوصول إلى أوروبا مع اقترابهم من الحدود البلغارية. أحمد الذي ترك وراءه أطفاله الستة على أمل أن يلتحقوا به بعد وصوله إلى أوروبا اصطدم بقسوة جهنمية عند اجتيازه الحدود البلغارية «كنا مجموعة من 10 أشخاص». قال أحمد وأضاف: «استقبلنا حرس الحدود بكلابهم المدربة التي هاجمتنا وانهالوا بالهراوات والركلات على بطوننا وظهورنا وأغلقوا آذانهم رافضين سماع تأكيداتنا أننا كنا نريد تسليم أنفسنا لهم وتقديم طلبات اللجوء والحماية الرسمية». وقال: «نخشى أن نحاول مرة أخرى طلب اللجوء في بلغاريا لأنها دولة لا ننتظر أن نتلقى منها الحماية وهي أخطر علينا من الحرب في سورية». فضائح تعاطي حرس الحدود مع اللاجئين وضعت وزارة الداخلية في موقف حرج أمام الرأي العام الداخلي ومؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان وفي مقدمتها «أمنستي انترناشنال» و«هيومن رايتس ووتش» اللتان وجهتها انتقادات لاذعة للحكومة البلغارية ودعتاها إلى التوقف عن صد طالبي اللجوء والتقيد بالقوانين والأعراف الدولية في ما يخص التعامل مع طالبي اللجوء. وقام صحافيان بلغاريان هما روسين بتكوف وجورجي توتيف من محطة التلفزيون الوطنية (BNT) بتسجيل حوار مع عناصر من قوات حرس الحدود مستخدمين كاميرا خفية كشفوا خلاله عن أوامر وتعليمات تلقوها من القيادات في وزارة الداخلية باستخدام القوة المفرطة مع اللاجئين، وقالوا: «أحد الكبار قال لنا بصوت جهوري صارم اضربوهم بقوة حالما تعثرون عليهم وألقوا بهم إلى الجانب المقابل من الحدود». وانضم إلى حملة الانتقادات هذه ممثل المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة في صوفيا، وأعرب عن قلقه البالغ من المعلومات التي تتحدث عن اتباع السلطات البلغارية إجراءات تعسفية لمنع مجاميع من الناس من الدخول إلى البلاد طلباً للحماية من أخطار تتعرض لها حياتهم في أوطانهم»، ودعا إلى الإسراع بتحقيقات جدية للكشف عن المتسببين في مقتل اثنين من اللاجئين الايزيديين وتقديهم للقضاء لنيل عقابهم على جريمة النكراء». إلا أن الحكومة البلغارية صمت آذانها عن هذه الجريمة، واكتفت بتأكيد تقيدها بالالتزامات الأوروبية والدولية بتقديم المساعدة والحماية لطالبي اللجوء، وقالت إنها تحرص على أن تقدم لهم النصائح بتسليم أنفسهم إلى السلطات المعنية لكي يتجنبوا الممرات الخطرة التي يدخلون عبرها في شكل غير شرعي للبلاد». وقال رئيس الحكومة بويكو بوريسوف: «نحن كدولة عضو في الاتحاد الأوروبي مرشحة للانضمام إلى منظومة «شينغن» ننفذ في شكل صارم التزاماتنا حيال اللاجئين». اعترافات وأوامر رسمية اعترافات عناصر الشرطة تعكس أن الحكومة البلغارية تنتهج سياسة استخدام القسوة المفرطة في شكل منظم ومتعمد لإثارة الرعب لدى كل من يفكر بطلب اللجوء في بلغاريا، وهي حققت هدفها هذا وكللت هذه النهج بتشييد جدار عازل العام الماضي على حدودها مع تركيا استنسخته المجر بعد أن أيقن رئيس حكومتها أوربان بفعالية هذا الإجراء في صد اللاجئين عن بلغاريا. وتبرهن البيانات الرسمية لشرطة الحدود البلغارية على فعالية إجراءاتها العنفية والقمعية المنافية لقوانين الاتحاد الأوروبي التي نالت عضويته العام 2007 وتلزمها باستقبال طالبي اللجوء المهددين بأخطار عنف أنظمتهم أو بحروب تشهدها دولهم، إذ يتضح من هذه البيانات «أن عدد اللاجئين الذين ألقت السلطات الحدودية القبض عليهم على الحدود مع تركيا خلال الأشهر المنصرمة من العام 2014 بلغ 6023 شخصاً، أي أقل بمرتين عن العام الذي سبقه 2013 عندما عددهم إلى نحو 11542. ووفقاً للبيانات نفسها فإنه في العام 2013 بلغ عدد محاولات التسلل الفاشلة عبر الحدود التركية إلى الأراضي البلغارية 38 ألفاً و502 محاولة، وهو عدد اكبر بثلاثة أضعاف من محاولات العام 2014. وقال وكيل وزارة الداخلية البلغاري فيليب غونيف أن بلغاريا هي «منطقة عبور لطالبي اللجوء، ومن يدخلها لا يرغب في البقاء والعيش في بلادنا، وكلهم يريدون الرحيل إلى دول أوروبا الغربية والبلدان الاسكندينافية فور حصولهم على وثائق رسمية تصدرها سلطات الهجرة ووكالة اللاجئين تمنحهم فيها وضع اللاجئ وهي تتيح لهم التنقل بحرية داخل البلاد وعبر حدودها مع دول اوروبا»، مشيراً إلى «أن هذا يحدث على رغم من أن القوانين الأوروبية تلزم الدولة الأولى التي تستقبل اللاجئين بتوفير الحماية والظروف الطبيعية والعمل لهم حال حصولهم على الموافقة والوثائق الرسمية». معسكرات اعتقال وعنصرية مجتمعية لا احد من اللاجئين يريد أن يبقى في بلغاريا ولا في أي من دول أوروبا الشرقية لان الخدمات والفرص المتاحة لهم من المؤسسات الرسمية تكاد تكون معدودة، اذ بعد منحهم وضع اللاجئ يطلب منهم مغادرة مراكز اللجوء واستئجار شقق أو بيوت في الخارج، وغالبيتهم لا يمتلكون ما يكفي من المال لشراء الطعام. كما لا تتوافر لأطفالهم فرص التعليم ولا ضمانات بالحصول على الخدمات الطبية. وتشتد الوطأة عليهم من عنصرية فئات واسعة من المجتمع تنظر اليهم كإرهابيين محتملين بمن فيهم الأطفال. وأقام سكان قرى بلغارية حواجز لمنع توطين عوائل سورية في قراهم، ورفض آباء وأمهات من تلاميذ المدارس في العاصمة صوفيا ومدن أخرى كثيرة السماح للأطفال السوريين بالتسجيل في مدارس أطفالهم. وتشن الأحزاب القومية المتشددة المساهمة في التحالف الحكومي وأخرى لها نواب في البرلمان وأحزاب خارجه حملات تحريض منظمة عبر وسائل الإعلام على «خطر اللاجئين». هذه كلها أسباب كافية تدفع هؤلاء إلى البحث عن فرص للهجرة إلى أوروبا الغربية مستخدمين كل الطرق الشرعية وغير الشرعية لتحقيق حلمهم في حياة طبيعية فقدوها في أوطانهم، بما فيها اللجوء إلى شبكات التهريب ودفع ما ادخروه وحملوه معهم من مبالغ لمغادرة بلغاريا. وتنشط شبكات تهريب منظمة من البلغار والعرب وعناصر من الشرطة وحرس الحدود في ابتزاز هؤلاء الضعفاء وإجبارهم على دفع مبالغ طائلة لتسهيل عبورهم الحدود. وقال وكيل وزارة الداخلية فيليب غونيف إن حرس الحدود ألقوا القبض على 19 ألف من طالبي اللجوء خلال 6 أشهر، ولكن لم يبق منهم في بلغاريا إلا عدد ضئيل للغاية لا يتجاوز المئات. يتجمع الآن آلاف اللاجئين السوريين على الحدود بين تركياوبلغاريا بعد أن وصلوا إليها بشكل منظم حيث يتجمعون في البداية في مدينة أدرنة استجابة لنداء أطلقه بعض الشباب من اللاجئين أطلقوا حملة على» الفايسبوك» مطالبين فيها بعبور الأراضي البلغارية إلى صربيا ومقدونيا واليونان في طريقهم إلى ألمانيا. ورفع الآلاف من اللاجئين من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، لافتات تحمل شعار (Grossing no more) ما دفع السلطات البلغارية إلى اتخاذ إجراءات مشددة لمنع اجتياز الحدود أو اختراق سياج الأسلاك الشائكة مثلما حصل في هنغاريا وكرواتيا. وأعلنت وزارة الدفاع عن استعدادها لنشر ألف عسكري على طول الحدود مع تركيا لمواجهة أي احتمالات لاستخدام اللاجئين القوة لاجتياز الحدود. وفي الوقت الذي أغلقت فيه بلغاريا حدودها بالكامل بوجه اللاجئين، فتحت صربيا ومقدونيا حدودهما أمامهم وأمنتا لهم ظروفاً طبيعية إلى حين وصولهم إلى الحدود مع المجر وكرواتيا في باصات قامت هي بتأمينها. أدرنة كانت حتى ما قبل أيام معدودة هي الأمل الوحيد المتبقي أمام موجات الهاربين من القتل المنظم وانعدام الأمن والمستقبل في سورية والعراق.