«قد تكون المحطة الأخيرة في حياتي، سأجازف مهما كلفني ذلك، علني أجد وطناً يعيد لي كرامتي وإنسانيتي، ذلك أهون من البقاء في أرض لم تعد تطيق وجودي». كانت تلك الكلمات الأخيرة، للشاب الأيزيدي داود حسو، قبل أن يودع رفيقه المسلم أحمد سليمان، وهو في طريقه إلى العاصمة التركية أنقرة ومنها إلى الحدود التركية البلغارية، في هجرة غير شرعية يفترض أن تنتهي به في ألمانيا، الوجهة الأولى لعشرات آلاف الأيزيديين العراقيين الذين يهربون من بلادهم بحثاً عن موطن آمن، مع حلول الذكرى الأولى لكارثة اقتحام تنظيم «داعش» مدينتهم التاريخية سنجار في منطقة سهل نينوى وتعرضهم إلى حملة إبادة. رحلة «الحياة أو الموت» كما يقول حسو تمثل «الخلاص الأخير للأيزيديين من محنهم التي تستمر منذ عقود وبلغت اليوم محطتها الأخيرة» مع استيلاء تنظيم «داعش» على مناطقهم وتحويلها جزءاً من «أرض الخلافة» التي لا مكان فيها للأيزيديين وتضعهم في خانة «الكفرة»، وما زال التنظيم يحتجز المئات من الرجال والأطفال ويقوم بسبي النساء، بعد أن كان نفذ حملة إعدامات جماعية بحق آخرين. 350 ألف أيزيدي، ممن تمكنوا من الفرار قبل وصول التنظيم المتطرف إلى مناطقهم، يواجهون ظروفاً صعبة في مخيمات موقتة في مدن كردستان، تفتقد للكثير من مقومات الحياة ولا تتواءم مع الظروف المناخية المتقلبة، والتفكير بالعودة إلى الديار معدوم مع استمرار سيطرة «داعش» على سنجار وكامل مجمعاتها الجنوبية، فضلاً عن التهديد المستمر لمجمعاتها الشمالية التي استعادتها قوات البيشمركة قبل أشهر. الهاجس من مستقبل مبهم يغلفه يأس من إمكان إعادة لحم الشرخ الذي أصاب التعايش مع محيط إسلامي متشدد «شارك في إبادتهم، ويرفض وجودهم وثقافتهم»، ناهيك بالفقر المدقع والبطالة المنتشرة في المخيمات، ما يدفع معظم الشباب الأيزيدي نحو خيار الهجرة، وذلك وفق الناشط الأيزيدي حسن عكو، الذي يذهب بالقول إلى أن «معدلات هجرة الشباب تتصاعد من خلال شبكات المهربين عبر الحدود الشمالية الغربية لتركيا ومافيات الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط». خلات سمو، أيزيدي آخر، يستعد للهجرة إلى ألمانيا، قال وهو يستعيد الساعات الأولى لسقوط مدينته سنجار بيد تنظيم «داعش» في 3 آب 2014: «كنت محظوظاً يومها، فقد نجوت مع عائلتي من عمليات القتل العشوائية التي نفذها جيراننا، كما كنت محظوظاً حين نجوت من الموت جوعاً وعطشاً في جبل سنجار حين حاصرنا التنظيم عشرة أيام، لكني لا أعرف هل سيحالفني الحظ في رحلتي الجديدة أم أنها ستسجل نهايتي». معدلات هجرة مخيفة تتعدد مخاطر الهجرة غير الشرعية التي تتم عبر تخطي البحار أو البراري، مع احتمالات التعرض إلى النيران من حرس الحدود و «جشع مافيات الهجرة» التي لا تتردد في اللجوء إلى القتل عند تعرض مصالحها للخطر، لكن «سمو» مثل آلاف الأيزيديين، متمسك بخوض تلك المغامرة: «سأمضي بحثاً عن وطن أستعيد فيه كرامتي المسلوبة، ولعلي أمحو من ذاكرتي قصص القتل والخيانة والسبايا والموت عطشاً». وفق استبيان أجرته في حزيران (يونيو) الماضي مؤسسة أيزيدية في بلدة الشيخان التابعة لإقليم كردستان، حيث يعيش الأيزيديون إلى جانب المسلمين، فإن نحو ثلاثة آلاف أيزيدي يهاجرون شهرياً من كردستان نحو المجهول، وبمعدل 100 أيزيدي يومياً، وهو معدل يكفي لإنهاء الوجود الأيزيدي خلال سنوات قليلة. الاستبيان أوضح أن 96 في المئة من الأيزيديين يرغبون في الهجرة إلى أوروبا، تاركين أرضهم ومعابدهم ومزاراتهم الدينية وإرثهم التاريخي. هذه الأرقام تتطابق مع أرقام ومؤشرات مديرية شؤون الأيزيديين في حكومة كردستان التي تتحدث بدورها عن هجرة 100 أيزيدي يومياً من الإقليم. ويقول هادي دوباني، وهو مسؤول في المديرية، أن نحو «40 ألف كردي أيزيدي هاجروا من كردستان خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي». دوباني أكد أن معظم المهاجرين هم من الشباب، مرجعاً السبب إلى فقدانهم الأمل: «هم لا يجدون فرصاً للعمل، ومدنهم لا تزال تخضع لسيطرة داعش، ومن غير المعلوم متى يتم تحريرها، ووضعهم سيئ في المخيمات». الدوافع الكامنة للهجرة يقول جاسم خديدا، الذي كان يُحول مبلغاً من المال إلى الليرة التركية في سوق صرف العملات في مدينة زاخو الحدودية مع تركيا: «لم يعد أمامي خيار آخر، أدرك مدى خطورة هذا القرار، لكن لم تعد تربطني صلة بهذا الوطن»، يصمت وهو يطأطئ رأسه ويطالع أوراقه الشخصية التي استنسخها للتو وبينها الجواز العراقي. خديدا، الذي تجاوز الخمسين من عمره، كان يمسد بين فترة وأخرى لحيته وشاربيه الكثين كمعظم الأيزيديين من كبار السن، اعتبر ما حصل لهم خيانة لن تنسى «تعرضنا لطعنتين من الأمام والخلف، واحدة من سكان بعض القرى العربية التي غدرت بنا، والثانية من قادة البيشمركة المشرفين على أمننا والذين قرروا الانسحاب وعدم الدفاع عنا وسلموا مصيرنا لعصابة همجية، كيف يمكننا أن نثق بهم مجدداً، إنها الإبادة 74 التي نتعرض لها على هذه الأرض». يقول المؤرخون الأيزيديون إن «الشعب الأيزيدي تعرض ل 72 حملة إبادة جماعية لتغيير دينه، كان آخرها على يد العثمانيين مطلع القرن العشرين، قبل أن يأتي تنظيم داعش وينفذ الإبادة الجديدة» التي يقدر نواب ونشطاء أيزيديون عدد ضحاياها بنحو ثلاثة آلاف رجل قتلوا ودفنوا في مقابر جماعية مع سبي أكثر من أربعة آلاف امرأة وطفل، مصير نحو ألفين منهم لا يزال مجهولاً. جمال، وهو ابن عم خديدا ورفيقه في رحلته نحو المجهول قال: «أريد أن أنسى الأرض التي زرعنا فيها الخير وحصدنا العلقم، وأن أنسى الأرض التي نزحنا إليها هرباً من داعش، لكنا بقينا فيها مواطنين منبوذين تطاردنا العيون وهي تسألنا هل أنت أيزيدي... هي تلومنا لأننا نحاول الحصول على فرص عمل بأجر أقل لكي نمنع عوائلنا من شر الحاجة والتسول». الناشطة الأيزيدية نارين شمو ترى أن «الاضطهاد الديني، والمضايقات، والحياة الصعبة في المخيمات، وعدم الشعور بالأمان نتيجة فقدان الثقة بالحكومتين الكردية والاتحادية التي أخفقت في حمياتهم» تدفع بالأيزيديين للهجرة. وتقول شمو: «من الإجحاف التعامل مع الأيزيديين كنازحين أو لاجئين عاديين، هؤلاء تعرضوا للترهيب والذبح الجماعي، وذاقوا الموت تحت الحصار في الجبل، وفقدوا أحباءهم الذين لا يزال بعضهم مجهول المصير، ومع كل ذلك، يواجهون المزيد من الإهانة وتدنيس الكرامة بمجرد خروجهم للتظاهر احتجاجاً على أوضاعهم الإنسانية»، تضيف شمو: «هذا يولد اليأس في نفوس الجميع». كماشة مافيات التهريب وتتحدث شمو التي كرست حياتها لمتابعة أوضاع الأيزيديين الإنسانية منذ 3 آب 2014، عن السبل المتبعة نحو الهجرة، بأن «الأيزيديين فروا بملابسهم وفقدوا كل ما يملكونه، بعض العوائل تحصل على المال من أقاربها في ألمانيا لتمكين أحد أفرادها من الهجرة، والبعض يقترض، وهؤلاء يضعون كل تلك الأموال في أيدي مافيات التهريب الجشعة ومن دون ضمانات، يحدث ذاك في مخيمات تركيا أيضاً، والجميع بمن فيهم النساء والأطفال يواجهون مصيراً مجهولاً». الناشطة الأيزيدية رصدت في زيارة لها لألمانيا وصول نحو 30 أيزيدياً إلى هذا البلد بمعدل شبه يومي، بعد رحلة مخاطرة تتطلب أحياناً المشي والمبيت في الغابات أياماً ومواجهة حرس الحدود، أو ركوب قوارب صغيرة يكدس فيها اللاجئون. وقالت: «قابلت شابين في مدينة كوتنكن، تحدثا عن رحلة قطعا فيها مئات الكيلومترات مشياً على الأقدام، بعد أن تمت المتاجرة بهما من قبل عصابات التهريب، وعلى رغم الموت الذي واجهاه اعتبرا ما حصل لهما مغامرة تستحق خوضها، للخلاص من مستنقع العراق». الشابان كانا ينتظران وصول 40 آخرين من أصدقائهم وأقربائهم الذين دخلوا تركيا لخوض الرحلة ذاتها من دون أن يلتفتوا وراءهم. وتصف شمو ذلك بأنه «مأساة أن تترك أرضك وحياتك وتاريخك، وتمضي نحو المجهول». مديرية الشؤون الأيزيدية في كردستان، تقر بأن الوضع سيئ: «ناقوس الخطر دق مع تسجيل حالات لأسر تسكن مناطق لم تسقط بيد تنظيم داعش بدأت بيع ممتلكاتها استعداداً للرحيل»، محذرة من تداعيات «الهجرة اليومية» لأبناء الديانة: «لقد أصبحت ظاهرة، وهي في تصاعد، خصوصاً مع تقديم بعض الدول الأوروبية تسهيلات لاستقبال اللاجئين». خيري بوزاني مسؤول الشؤون الأيزيدية في وزارة الأوقاف في حكومة كردستان يرى أن «النظرة التشاؤمية تحيط بمخيلة الشباب الأيزيدي الذي يعاني الإحباط، بعد أن أصبح نازحاً مجرداً من كيان وحياة كريمة، هو لم يصحُ بعد من هول ما يعتبره خيانة وطعنة من الخلف تلقاهما من بعض سكان القرى العربية، ولم يعد يثق بإمكان التعايش التي كانت سمة المكونات لعقود من الزمن قبل غزوة داعش». ويرى بوزاني أن ظروف النازح الأيزيدي في مدن الإقليم أفضل نسبياً من أقرانهم المقيمين في المخيمات في تركيا «الأوضاع الإنسانية هناك مزرية، ما يدفع النازحين وخصوصاً الشباب للبحث عن أي وسيلة للتوجه نحو اوروبا، حتى لو واجهوا الموت، ما يجعلهم يقعون ضحية مافيات التهريب، البعض يخسر أموالاً طائلة، وآخرون يفقدون حتى حياتهم إما غرقاً أو في الطرق البرية المحفوفة بالمخاطر، وقد سجلت العديد من حالات الموت والاختفاء». الوقوع في الشرك ويكشف محمود ماردين المختص في شؤون ديانات الشرق القديم والأقليات، عن «تزايد مطرد للهجرة في وسط الشباب الأيزيدي، من تركيا إلى اليونان بحراً ولاحقاً إلى إيطاليا، من خلال شبكات تهريب البشر، والتي غالباً ما تستخدم مراكب غير صالحة للإبحار تكون مهددة دائماً بالغرق، لينتهي حلم الهجرة إلى ظلمات البحر وتتحول أجساد اللاجئين إلى طعام للأسماك». ويشير ماردين، الذي يتابع عن قرب موجات الهجرة الجديدة من كردستان، إلى استخدام بعض المافيات طرقاً برية لا تقل خطورة عن الرحلات البحرية، يقع فيها المهاجر فريسة لاستغلال المهربين الذين يتخلون عنهم مع أول تهديد يتعرضون له، لينتهي بهم إلى الاعتقال أو الاختفاء في ظروف غامضة، أو حتى الموت». ويتحدث ماردين عن خيار ثالث للهجرة وهو «إقدام الكثيرين على شراء تأشيرة التنقل الأوروبية (شنغن) بمبالغ تترواح بين 9 آلاف إلى 12 ألف دولار، تكون عادة قابلة للزيادة من قبل المهرب بعد أن يكون المهاجر قد دخل مراحل متقدمة من الهجرة لا يستطيع التراجع عنها». ماردين انتقد إهمال سلطات الاقليم وبغداد لظاهرة هجرة الأيزيديين وبقية المكونات الصغيرة كالمسيحيين، مبيناً أن وجودها على أرضها التاريخية أصبح مهدداً فعلياً، فالنزيف يستمر والجميع يتفرج: «في تركيا، حاول نحو ثلاثة آلاف لاجئ ينتشرون في مخيمات اللجوء في جنوب شرقي تركيا بما فيها ديار بكر، قبل أسابيع النزوح في شكل جماعي نحو بلغاريا في محاولة يائسة للنجاة من أوضاعهم السيئة، لكنهم واجهوا الضرب والإهانة والجوع ليومين قبل أن تتم إعادتهم بالقوة إلى المخيمات مجدداً». يرجع الناشط والكاتب الصحافي الأيزيدي خدر خلات، أحد أسباب الهجرة إلى تأخر عملية تحرير مناطق الأيزيديين: «أصابهم ذلك باليأس بعد عام من الحياة تحت الخيم وبلا أفق للخلاص، بينما تتحدث بعض القوى الدولية عن حرب تمتد مع داعش لعشر سنوات، هذا دفع معظم الشباب للبحث عن أي وسيلة للهجرة إلى أوروبا». خلات يتفق مع رؤية ماردين في أن المهاجرين يواجهون «أبشع أنواع الاستغلال من المهربين، ويتهددهم خطر الموت أو خسارة كل مدخراتهم»، مبيناً أن «الرحلة تكلف نحو 10 آلاف دولار أميركي في المتوسط، ويتحدد المبلغ وفق سهولة الرحلة وصعوبتها ومدى خطورة الدروب التي يتم سلكها». مرحلة الصدمة والرعب تقوم شبكات المهربين ومافيات الهجرة بنقل المهاجرين عبر الحدود الشمالية والغربية لتركيا وعبر البحر المتوسط. سعدون مجدل، أيزيدي عايش الأوضاع في مخيم نصيبين في تركيا قال: «البعض خاطر بعبور البحر إلى اليونان كونه أرخص من التسلل إلى بلغاريا ومنها إلى صربيا في طرق لا تخلو من مخاطر مواجهة الحيوانات المفترسة أو السامة في الغابات أو الموت بسبب البرد، البعض تعرض للضرب وتهشمت أطرافه على يد حرس الحدود البلغاري، إلى جانب الترهيب بواسطة الكلاب البوليسية». يحكي الشاب الأيزيدي (م، س) من مجمع زورافا التابع لسنجار، متحدثاً عبر الهاتف من تركيا، كيف فقد شقيقه مع اثنين من رفاقه خلال رحلتهم إلى بلغاريا: «قرر الهجرة مثل الآخرين، والعائلة أيدته عله يتمكن من الوصول إلى ألمانيا ومساعدتنا على اللحاق به، تمكنا بعد أشهر من جمع ستة آلاف دولار ليبدأ رحلته... هو لم يصل أبداً، انقطعت أخباره، وبعد أيام تسلمنا جثته. كانت تحمل آثار كدمات وجروح في الرأس والبطن، علمنا من أصدقائه بأن حرس الحدود البلغاري اعتدوا عليه». لكن مصير آخرين كان أفضل، فقد تعرضوا للسلب فقط من قبل قطاع الطرق، وفق دلير محمد، الذي ينقل بسيارته الكثير من الأيزيديين الراغبين بالهجرة إلى تركيا: «عليك توقع أي شيء على هذه الطرق حيث تنتشر المافيات التي تتاجر بالبشر وبكل الممنوعات، وهي مستعدة لقتل إنسان لأنه يحمل مئة دولار». يؤكد تلك الرواية كمال سعدو، وهو من مدينة سنجار: «بعد أسبوع من الانتظار، قال المهرب إن علينا التحرك سريعاً، وحين وصلنا إلى الحدود، قيل إن هناك انتشاراً لحراس الحدود البلغاريين. بقينا في الغابة يومين ونحن ننتظر، المهرب اختفى فجأة، والحرس اكتشفوا وجودنا فلم نكن نعرف مخرجاً من الغابة، تعرضت ساقي للكسر بعد أن هاجمتنا الكلاب البوليسية وأجبرتنا على العودة، لم أكن أستطيع السير لكن الشرطة التركية أنقذتنا». ويروي الشاب (ج. ش) من مجمع خانصور التابع لسنجار، تفاصيل نجاته من الموت في رحلته إلى اليونان: «توجهنا من تركيا على متن مركب صغير كان يحمل 90 شخصاً، المركب غرق بعد خروجنا بدقائق، لكننا كنا محظوظين فالشرطة التركية أنقذتنا، هناك عشرات لم يحالفهم الحظ، نحن ندرك ذلك تماماً حين نقرر الهجرة لكننا لا نملك بديلاً». * أنجز التقرير بالتعاون مع منظمة دعم الإعلام الدولي (IMS).