يبدو أن الشخصية الليبية «أبهرت» في السنوات الأخيرة الأصدقاء والأعداء، بطريقتين مفارقتين ومتناقضتين، الأولى أثناء الانتفاضة ضد أربعة عقود من الغبن والاستبداد، والثانية مع بدايات العام الثاني من الانتفاضة وصولاً إلى هذا المنعطف التاريخي الخطير الذي تمر به ليبيا. تكونت تضاريس الشخصية الليبية عبر قرون من التسلُّط والاستبداد منذ ما قبل حكم العثمانيين في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وصولاً إلى حكم القذافي الذي تفنّن في تدجين الشعب وإعادة تشكيل عقليته وقيمه وسلوكياته، عاملاً على إذكاء وتحفيز عيوب تلك الشخصية في شقيها القبلي والحضري، وقطع الطريق على احتمالات نمو نزعاتها الإيجابية، وتعطيل إمكانات تطورها وتفاعلها مع العالم الخارجي، فقام بوضع الخطة تلو الخطة لعزل الشعب وتجهيله وتكبيل قواه الفكرية؛ وقبل ذلك وأثناءه إفقاره مادياً ومعنوياً، وبث أوهام مريضة وشعارات كاذبة بوجود «دولة عظمى» و «قائد» أممي يختصر في شخصه الوطن والتاريخ والمستقبل، وتمنّي أفكاره العالم والإنسانية بالخلاص والانعتاق! وفاجأت الشخصية الليبية في المدة الأخيرة، عبر ممارساتها السياسية والاجتماعية، كثيرين من الأكاديميين والمحللين الذين ما انفكوا يحاولون اكتشاف الدوافع الكامنة وراء هذه الممارسات، وجذورها التاريخية وملابساتها الثقافية والفكرية. ومن أبرز الدراسات التي صدرت في هذا المجال كتاب: «الشخصية الليبية ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة». والكتاب دراسة شبه أكاديمية، تنتظم في إطار علم الأنثربولوجيا، وتستند إلى تداخل الفعل السياسي مع تمثلات الثقافة المجتمعية ومنظومة القيم والمفاهيم المتحكمة في السلوك؛ كتبها أستاذ علم الاجتماع بجامعة منوبة بتونس المنصف وناس. والكتاب صادر عن «الدار المتوسطية للكتاب». أنجز الكتاب فيما تمر ليبيا بمرحلة مفصلية صعبة من تاريخها المعاصر، مرحلة تضع الشخصية الليبية ذاتها على محك الفعل، في مسرح يكتظ بجملة من الملابسات الداخلية والخارجية المعقدة والمتشابكة، التي تجعل هذه الشخصية في موضع المساءلة الأخلاقية والسلوكية، وتخضعها لاختبارات الهوية الوطنية والقبلية والمدنية؛ وهو ما يجعل وصف تعقداتها أمراً صعباً، ما قد يفقد هذه الدراسة بعضاً من حيثياتها، ويضعف جانباً من مرتكزاتها. في الحديث عن الخصائص العامة للشخصية الليبية يبرز الكاتب فكرة محورية هي «أن التغيير السياسي في الفاتح من سبتمبر هو «غزوة هلالية» ثانية من حيث نتائجها المجتمعية والثقافية»، وهي استنتاج واقعي يفيض بالإيحاءات التي تحيلنا على ما اقترفه الهلاليون في حواضر شمال أفريقيا مما سجله ابن خلدون من أنهم «خربوا عمرانها ومبانيها، وعاثوا في محاسنها وطمسوا معالمها وجردوا قصورها مما كانت تحويه من روائع وتحف، فتفرق أهلها في الأمصار». ويرى الباحث أن «البدونة» فرضت على الليبيين من القذافي «رأس النظام» الذي عمل على تغليب البدو على الحضر، والريف على المدينة، وجعل المجتمع برمته يعيش على إيقاع الصحراء فيغني في الخيمة ويرتدي «الجرد» بالطريقة البدوية؛ بل يفكر ويتصرف كبدوي. وذلك بعد إعلانه الحرفي المبكر عن «انتصار الخيمة على القصر». ويمزج الكاتب في تفاصيل بحثه بين خصائص الشخصية البدوية وملامح الشخصية الليبية، المتماهية معها والمجسدة لتمثلاتها؛ واصفاً الأولى صراحة والثانية ضمناً بأنها: - شخصية ملولة مترحلة غير ميالة للاستقرار، Unsettled Personality، التي هي بالنسبة إلى البدوي مرادفة للموت والفناء، بعكس القروي أو المزارع الذي يعتبر أن الترحل وعدم الاستقرار إفناء لأنعامه وزرعه. - شمولية غير متسامحة Totalitarian and Intolerant، لا تقبل الاختلاف والحوار، محبة للسيطرة والانفراد بالسلطة، نزاعة إلى الغلبة واستعمال العنف من أجل الوصول إلى الغنيمة. - نرجسية متمركزة حول ذاتها، تحب بشدة وتكره بشدة أكبر؛ وهي لا تتحمل الهزيمة ولا تنساها أبداً، وتصرّ على مداواتها بهزيمة الخصم، ومن أجل ذلك فهي تجيد عقد التحالفات ونقضها. - استئثارية Monopolistic تحتكر موارد الثروة باعتبارها عنوان السيطرة والنفوذ. فهي تميل غالباً للاحتكار لا التوزيع العادل، وللهيمنة لا التقاسم والتشارك. وحيث أن للغلبة بعداً ديموغرافياً، فإن القبائل عادة لا تبوح بتعدادها الحقيقي بل تبالغ فيه مباهاة بين القبائل وسعياً لتحقيق الغلبة. - شخصية غير محبة للعمل والاجتهاد، تحب الحرية التي هي حالة ذهنية ومخيالية وثقافية تعكس نزوعاً إلى تخطي كل الضوابط، والتنصُّل من القيود والالتزامات. - محتقرة للمهن الصناعية والحرفية اليدوية باعتبارها مقيّدة، إذ تفضل عليهما الرعي والتجارة لأنهما يسمحان بالترحال والتنقل الحر. - واقعية انتفاعية Realistic and Pragmatic، تجيد استعمال قوانين الربح والخسارة، لكن واقعيتها تلك «سوداء»، بمعنى أنها تهادن السوء وتسعى إلى الاستفادة منه؛ ولذلك فهي دائماً تتحيّز للغالب لأن ذلك يقرّبها من الغنيمة. - «نهّابة وهّابة»، فالبدوي يتميّز بعبقرية الحصول على المال، سواء من الدولة أو من الآخرين، ليمنحه للفقراء والمعوزين وأولي القربى، وهذا ليس كرماً عفوياً بل هو «كرم وظيفي» مبرمج، إذ يتحول إلى دين في ذمة الآخرين يتم توظيفه واستحضاره عند الحاجة، أي أنه كرم يهدف إلى شراء ولاء الآخرين وتوسيع دائرتهم. - مستهينة بالوقت، وغير متقيّدة بضوابط العمل، لأن علاقتها بالزمن مفتوحة وغير منتظمة، لذلك فهي لا تستعمل التحقيبات الزمنية ولا تحترم تراكم الخبرات والتجارب. ركائز النظام «الجماهيري» في ضوء هذه الخصائص استطاع نظام القذافي وضع إستراتيجيته لتدمير الدولة، موظفاً مساوئ الشخصية القبلية ونقاط ضعفها، مع تحييد متعمد لمزاياها التي كان يمكن توجيهها لدعم التضامن الاجتماعي وترسيخ المنافسة البناءة والقيم الاجتماعية النبيلة. وعمل في المقابل على تسييس القبيلة واستغلالها للتعبئة السياسية والرقابة الأمنية، مستغلاً الشروخ الموجودة في معظم التجمعات الإنسانية لخدمة أهدافه السياسية الشخصية المتقلبة، فأدمج أبناء القبائل في مشروعه السياسي الهادف إلى إعادة تشكيل الذهنية العامة، وترتيب الولاءات، ومزج الأيديولوجيا المستمدة مما سمّاه «الشرعية الثورية» بالبدو والبداوة، فأعاق تحديث المجتمع وتطويره وتنصّل من بناء المؤسسات التي تكفل التعبير العصري المنظم، وأدّت «البدوَنة السياسية» إلى تدمير هياكل الدولة بحجة القضاء على الحواجز بين الحاكم والمحكوم طوراً، وتحقيق «الديموقراطية الشعبية» المباشرة التي ترفض التمثيل النيابي طوراً آخر. لذلك تمّ تأويل الثورة الثقافية والإدارية التي كانت بداية تدمير الدولة، بأنها تعني البدوَنة، أي الغنيمة المؤدّية للغلبة. وأدت الارتجالية، التي هي صفة بدوية في الأصل، إلى خلط الأوراق والوضعيات وصولاً للغنيمة ونيلها بلا مراقبة أو محاسبة، بل بدعم من نظام المؤتمرات الشعبية المتكونة في الأغلب من البدو. ويشير الباحث إلى أن فكرة هدم الدولة إنما جاءت من قراءات رأس النظام في الماركسية والفوضوية، حيث لاقت قبولاً من البدو الميالين للغنيمة والرافضين قيود الدولة وإلزامات القانون. وبهذا صارت البدونة مرادفة لمعاني الفوضى والارتجال والتقلب، في حين يتطلب أداء الدولة والمجتمع الاستقرار والمأسسة والانتظام. ويرى الباحث أن دخل النفط ساعد في خلق ظاهرة «البداوة الريعية» التي تعني الوصول إلى موارد الطاقة لتحقيق السيطرة، وظاهرة «الزبونية» التي تعني كسب الولاءات وإبرام المقايضات السياسية والاجتماعية؛ وبذلك تمكّنت الفئات البدوية المسيطرة على مفاصل الدولة من تحقيق الغلبة والهيمنة، ليس باعتبار هوية البدوي الفردية وحدها وإنما أيضاً باعتبار مرجعيته القبلية، لذلك كان حريصاً على أن يضمن لقبيلته حداً من الغلبة الريعية والمالية والسياسية والخدماتية. وهكذا ترسّخ الانتماء القبلي والجغرافي على حساب الانتماء الوطني، ولم يعد المسؤول السياسي حريصاً على الثروة الوطنية وعدالة توزيعها، بل استباح الموارد العامة لتوسيع دائرة مناصريه، فتكوّنت بذلك ثقافة تعايشت مع مظاهر الاقتصاد الريعي والنزعة الاستهلاكية والمضاربات العقارية. ويعتبر الباحث من المفارقة الأنثربولوجية أن البدونة المفروضة لم تكتفِ بإقصاء الحضر وهزيمتهم اجتماعياً وسياسياً، وإنما عملت على قمع كل التعبيرات الثقافية غير البدوية مثل السينما والمسرح والرسم والنحت، وإخضاعها للأدلجة المفرطة، ما أدى إلى انسداد ثقافي وضمور إبداعي في المجتمع. بعد أحداث فبراير وأجرى الباحث تطبيقات لخصائص «الشخصية القاعدية البدوية» على ممارسات الليبيين السياسية والاجتماعية بعد أحداث فبراير مسجلاً النتائج التالية: إن «البداوة الذهنية» باعتبارها ثقافة، أشد وطأة وتأثيراً في سلوك الأفراد من البداوة في شكلها المادي كنظام معيشي، وهذه الذهنية عنصر مكون للشخصية الليبية ومتحكّم في سلوكياتها وعلاقاتها الاجتماعية. ولأن من خصائصها الحب الشديد والكره الشديد فإن الليبيين الذين قبلوا بالملك إدريس حاكماً عليهم وعاشوا تحت لوائه أكثر من عقد ونصف العقد، ما لبثوا أن تنكّروا له وخرجوا في مسيرات حاشدة فرحين مهللين للنظام الجديد الذي أزاحه. لكن هذا الشعب ما لبث، بعد مرور سنوات من الشعور بالملل والقلق، أن شكّل في صلب النظام الجديد وتخومه نوعاً من المعارضات التي تنامت حتى أدت إلى أحداث فبراير. وعلى رغم أن هذا التناول مغرق في السطحية ومختزل لما لا يحصى من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن الأحداث والممارسات والمغامرات الخرقاء التي قام بها النظام على مدى عقود أربعة، إلا أنه قد يفسر أنثربولوجياً تلك التقلبات والتحولات والعمل على عدم الاستقرار من قبل «الشخصية البدوية الأولى» وهي رأس النظام؛ فهو الذي جعل المؤسسات الحكومية «ترحل هي أيضاً من مكان إلى آخر من دون سابق إنذار وكأنها في حالة تيه؛ أما صيانة المؤسسات فكانت غائبة ... [مع] غياب الاستمرارية وروح الديمومة في الأداء والعمل والإنتاج». يشير الباحث إلى أن البدوي يحدّد علاقته مع الآخر بمدى الاستفادة منه، لذلك فإن المنطق القبلي لا يسمح بالانحياز إلى غير الغالب. الأمر الذي يفسر انحياز عدد من القبائل مبكراً إلى انتفاضة فبراير عندما لم يدع «الناتو» مجالاً للشك في من سيكون الغالب. ويضرب مثلاً على هذا المنطق بقبيلة الزنتان التي يقول إنها كانت تاريخياً منحازة إلى الأتراك، ثم صارت بعدهم حليفة للإيطاليين قبل أن تنقض موقفها بعد معركة القرضابية عام 1915 عندما غلب المجاهدون جيش مستعمريهم، وقد تحالفت مع النظام الجماهيري ثم كانت أول المتمرّدين عليه. ومن المثير للانتباه أن يرجِع الباحث بعض مواقف القبائل إلى ما يسميه خاصية «روح الغلبة والحرص على الهيمنة والواقعية في التعامل مع الآخرين» مشيراً إلى أن معظم القبائل التي «تطليَنت» أي والت إيطاليا، فعلت ذلك من باب الحرص على تملك الموارد للغلبة على القبائل الأخرى وليس حباً بإيطاليا، فإذا كانت قبيلة ما موالية لإيطاليا فإن خصمها ينخرط في معسكر الجهاد، مفسراً ذلك بأن القبائل تجيد تبادل المواقع وتغيير التحالفات وفق الفوائد المنتظرة. وفي هذا السياق يصف مصراتة بأنها «المدينة المدلّلة في المرحلة السابقة» ويرى أنها وبنغازي قد تمتعتا بقدر نسبي من المشاركة في السلطة والاستثمار لكنهما كانتا في طليعة المعارضة المسلحة. ويذكر الباحث مدناً وقبائل ومناطق عدة، ملمحاً إلى العلاقات المتوترة تاريخياً بينها، وحريصاً على عدم الخوض فيها، كما بين مصراتة وورفلة وتاورغاء والقذاذفة من جهة، وبين غريان وورشفانة، وبين الزنتان والمشاشية من جهة أخرى. وهو ما يؤكده تشابك أحداث ما بعد فبراير وتعقّد ديناميكيتها من أن رأس النظام قد عمل بنفسه على إذكاء تلك التوترات في الخفاء، بطريقة تضمن سيطرته على المشهد وتمكنه من إثارتها أو تهدئتها وفق الحاجة. ظلت قيمة الحرية في المخيال البدوي حالة ذهنية تعكس روحاً حالمة ميالة إلى تخطي الحدود وكسر الضوابط، وهو ما كرّسه المناخ الذهني والثقافي والنفسي الذي عمل على إضعاف الدولة وإلغاء المؤسسات ونبذ كل أساليب الوساطة السياسية العصرية، وجعل القبيلة الوسيط الاجتماعي والسياسي الفعلي بين مركز الحكم والأفراد، وفقاً لشروط الزبونية والاستزلام. وأصبحت الخصائص البدوية من عدم الميل إلى الاجتهاد في العمل والتقيّد بضوابطه سبباً في «عدم تقديس المؤسسات وضعف الحافزية للعمل والدافعية للإنتاج، وترهّل الهياكل الحكومية وارتفاع معدلات التغيّب عن العمل... وغياب المتابعة اليومية... وعدم الاهتمام بتلف أو إتلاف دواليب الإنتاج، وضرورة مراكمة الخبرات والتجارب المهنية والإنتاجية». وتتكامل مأسوية المشهد بحقيقة صادمة وهي أن ليبيا لم تكن، من الناحية الإدارية، على مدى عقود أربعة معنية بأي تراكم وثائقي أو أرشفة منظمة، فالجميع يعلم كيف تعامل «رأس النظام» مع مؤسسات وسجلات العهد الملكي، حيث أمر بإتلافها والتخلص منها في قطيعة مبرمجة مع المراحل المؤسسة للدولة، ثم كان إعلان «الثورة الثقافية» ترخيصاً «بإعدام الوثائق والأرشيفات [بدعوى] أنها لا تتلاءم مع خصائص المرحلة الثورية ولأنه لا يوجد مبرر إداري أو مؤسساتي للإبقاء عليها». وتجدر الإشارة إلى أن الشخصية البدوية غير حريصة على تراكم التجارب والخبرات Noncumulative Personality، لذلك فهي لا تميل إلى الكتابة والتسجيل المحقّق للتراكم الذي تبنى عليه الأجيال، وإنما تميل إلى الرواية الشفوية التي اهتم بها النظام في ما يتعلق بتاريخ الجهاد الليبي، ويرى الباحث أن لها دوراً في تفكيك العلاقات القبلية والروابط الاجتماعية، حيث ساعدت على توارث الأجيال صراعات وأحقاداً لم يعايشوها. واكتمل مشروع تلويث الذاكرة الجماعية وتزييفها عندما رخّص «رأس النظام» في منتصف الثمانينات، بحرق السجل العقاري وتدمير وثائق الملكية الخاصة، من أجل محو حقيقة الملاّك الأصليين لمئات العقارات التي قنّن النظام الاستيلاء عليها ظلماً وزرعاً للأحقاد بين أبناء الشعب. وليس غريباً أن يستنسخ هذا الأسلوب بعد الانتفاضة لإتلاف أرشيفات «المركز الوطني للتوثيق الجماهيري» و «المتحف الوطني» و « السجل القومي» و «المركز العالمي للكتاب الأخضر»، إضافة إلى محفوظات الاستخبارات الليبية، وأرشيفات شركة «المدار» للاتصالات، كما تمّ حرق جزء كبير من «السجل العقاري» مجدّداً، وذلك لإتلاف حجج من تمّت مصادرة أملاكهم من مسؤولي النظام السابق، في استنساخ لممارسات النظام التي انتفض الشعب ضدها! وهذا ليس سوى إعادة لإنتاج «البدوَنة السياسية» المؤدّية إلى استنزاف الذاكرة الجماعية، وإخضاع التاريخ لقراءات غير صحيحة بإتلاف المعلومة أو تزييفها. القبيلة والتحديث في ليبيا يشير الباحث إلى نوعين من التحديث، أحدهما سريع سطحي، والآخر عميق إستراتيجي. يهتم الأول بتوفير البنى التحتية المادية، ويتوجه الثاني إلى تغيير البنيات الذهنية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بمعنى أنه تغيير في «الشخصية القاعدية» نفسها لتعديل منظومتها القيمية وسلوكها العملي، والتخلّص من آفات البدوَنة السياسية والإدارية والاقتصادية، التي شكّلت بيئة طاردة للتحديث الاجتماعي العميق ولعملية بناء الإنسان الليبي. ويُرجّح الباحث أن النظام القبلي لن يتقبل هذا النوع من التحديث لأنه يُحدث تغييراً عميقاً في البنية الذهنية، ويستدعي وجود دولة قوية ومؤسسات راسخة بما لا يتلاءم مع الحياة القبلية، وعليه فلن تكون القبيلة من آليات تحقيق أي تغيير جذري في الدولة الجديدة، وهو ما يجب أن ينتبه له من سيأخذ بيده زمام التخطيط والبناء. وفي نهاية الكتاب يؤكد الباحث أن الشخصية الليبية، على رغم ما تشتمل عليه من سلبيات وما تواجهه من تحديات، تمتلك من المواد الخام الأولية ما يمنحها القدرة على التحول والتكيف ويمكّنها من بناء نفسها، وذلك في حالة توافر برنامج وطني شامل تتولاه نخبة متبصّرة تمتلك الإرادة على كسب معركة إعادة بناء العقل الليبي، وغنيّ عن التنويه أنه يجب أن تحشد لهذا الهدف آليات التنشئة الاجتماعية والسياسية والتربوية، وأن تساهم الأحزاب والجمعيات والمنظمات في بناء شخصية قاعدية جديدة يكون ولاؤها للوطن، بحيث تعلن قطيعتها مع قيم الثأر وإهدار الدم، والمحسوبية والزبونية، وتعمل على ترسُّخ القيم المدنية التي تعلي من العمل المنظّم ورفع الإنتاج. ولقد سبق لهذه الشخصية أن صمدت أمام المجاعات والأوبئة والحروب قروناً ونجحت في مقاومة القمع الفاشي، ما يدلّ إلى أنها شخصية قوية قادرة على مواكبة العصر. * أكاديمية ليبية مقيمة في الولايات المتحدة