" التغير " و " التغيير " مصطلحان بينهما من ناحية الإملاء " الشكل " حرف واحد وبينهما من ناحية المعنى " المضمون " فرق كبير، فالتغير تحول تلقائي وفق قوانين داخلية يمكن القول إنها سنن كونية لو تركت المجتمعات البشرية فستنتقل وفقاً لها من طور إلى آخر من أطوار التحول الاجتماعي . أما التغيير فعمل مخطط سلفاً لتحقيق غايات معدة مسبقاً، وقد ارتبط مفهوم التغيير أولا بظهور " الدولة القومية " كشكل للتنظيم السياسي، ويعتبر المؤرخون " صلح وستفاليا " " " 1648 لحظة ميلادها الحقيقية، لكن ميلاد الدولة القومية أدى من ناحية أخرى إلى ميلاد ظاهرة أخرى هي النزوع المتزايد إلى التحكم في العوامل الحاكمة لعملية " التغير " ليحل محلها " التغيير " . ومن أهم نماذج هذا النزوع ما يرويه الأكاديمي الأمريكي والت ج .أونج في كتابه " الشفاهية والكتابية """ 1 يقول حرفيا : " ليس ثمة من عمل يتناول التفكير الإجرائي أكثر فائدة للدراسة الراهنة من كتاب أ .ر .لوريا " التطور المعرفي : أسسه الثقافية والاجتماعية " " " 1967 فبناءً على إيحاء من عالم النفس السوفيتي الفذ ليف فيجوتسكي، قام لوريا ببحث ميداني واسع على أشخاص أميين " أي شفاهيين " وأشخاص كتابيين إلى حد ما في المناطق البعيدة من أوزبكستان وقيرغيزيا في الاتحاد السوفييتي خلال العامين 1931 .1932 ولم ينشر كتاب لوريا في طبعته الروسية الأصلية إلا سنة 1974، أي بعد أن اكتمل البحث باثنتين وأربعين سنة " . والعبارة الأخيرة من كلام أونج هي الأكثر أهمية فلماذا تخفي السلطات السوفيتية بحثاً كهذا لمدة أكثر من أربعين عاما؟ إنه على الأرجح النزوع إلى السيطرة على التغير الاجتماعي، وبخاصة أن البحث الذي يؤكد أونج أهميته من المؤكد أنه كشف عن مفاتيح مهمة في " التغير الاجتماعي " . ترييف المدن وقد شهد العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين تحولا لفت نظر الباحثين كانت سمته الرئيسية موجة واسعة من الترييف للمدن العربية أعقبت تجربة " تمدين " متفاوتة الوتيرة بدأت عقب الحملة الفرنسية على مصر " 1798 ." 1801 والذي يلفت الانتباه في هذه الموجة أنها اقترنت بتولي نخب التحرر الوطني الحكم عقب رحيل الاستعمار، وبينما كان الاتجاه في كثير من تجارب الاجتماع الإنساني في الشرق والغرب هو التحول من سكنى الريف إلى سكنى المدن فإن الاتجاه في كثير من الدول العربية كان " ترييف " المدن . والترييف يتعدى كونه مظهراً اجتماعياً ليكون منظومة متكاملة من المفاهيم والرموز والميول النفسية، ومن الناحية السياسية كان الترييف انقطاعاً في مسيرة تأسيس " دولة المؤسسات " التي تقترن فكرة إنشائها بالحياة في المدينة مقابل سيادة العلاقات القرابية والطبقية في الريف، فكانت نتيجة الترييف سيطرة قيم قروية على المؤسسات ! ومفهوم " المؤسسة " يقترن بمفاهيم ويحمل في جوهره منطقاً محدداً، وفلسفة وملامح خاصة أهمها : الموضوعية، والتعددية، وتحييد المشاعر، وحرية تداول المعلومات، واعتبار الموظف رصيداً إنسانياً ومهنياً . وقد كان الإجماع عليها في الواقع والممارسة في الدولة الحديثة ودراستها في العلوم الاجتماعية تعبيراًً عما يمكن أن نطلق عليه " الديمقراطية الإدارية " ، حيث تتراجع مركزية دور الشخص الملهم القابض على زمام الأمور المنفرد وحده بالقرار لتحل محله المؤسسة التي تخضع لقواعد إدارية معروفة سلفاً، ويعرفها الجميع، ويخضعون لسلطانها في إطار من الشرعية القانونية . والمؤسسة ولدت في مجتمع عرف قيمة الفرد ككيان مستقل، وإذا تحقق كيان الفرد تأتي نشأة المؤسسة تعبيرا عن تحقق مكانته . وتتسم معظم المجتمعات العربية بأن مفهوم الفردية لم يستقر فيها بعد، ربما لأنه لم يستقر بالمعنى الحقيقي مفهوم " المدينة " كتعبير لتطور مساحي واجتماعي ولعلاقات حديثة جديدة تختلف عن علاقات القبيلة أو القرية، فما هو قائم الآن شكل مدني خارجي في بعض الحواضر الكبرى، تسوده علاقات ذات صبغة ريفية . والريف لا يعرف الفرد مستقلاً بل دوماً منتسباً، والمدينة العربية تاريخياً وحالياً لا تعرفه هي الأخرى، وبخاصة بعد أن " تريفت " ، وصارت تحمل سمات المجتمع الريفي : العلاقات القرابية أو الشللية، والتصورات الجمعية، وتلاشي الفضاءات الخاصة للأفراد ... إلخ . ويمكننا القول : إن الفرد والمؤسسة لم يولدا بعد في المجتمع العربي وما نراه لا يعدو أن يكون صيغ علاقات وطريقة إدارة ريفية للأمور ترتدي مسوح المؤسسة المدنية تتلبس الشكل الخارجي للعمل المؤسسي بينما حقيقتها ريفية؛ فقد تحولت المؤسسة إلى أداة في يد الأفراد المتنفذين والمتحكمين بقصد إضفاء الشرعية على علاقات هيمنة، وانتهى الأمر إلى " ترييف " و " تزييف " و " تكييف " المفاهيم والأشكال الإدارية الحديثة لخدمة واقع مستبد ." " 2 الهامش ..والمهمش وقد شهد العالم العربي المعاصر تشكّل مجتمعين متباينين : أولهما، هامشي أو مهمش يتكون من غالبية الأرياف والبوادي وبعض المدن أو أقسام من المدن، وثانيهما، جديد / سياسي، مجتمع مدن، مهن وحرف جديدة أو متغيرة، طلاب وتعليم حديث، سياسة وأحزاب . فمعظم المواقع والعلاقات الاجتماعية في حالة تشكّل وتداخل وتبادل بين القديم والجديد، وترييف المدينة وبدونتها - على حد تعبير الدكتور محمد جابر الأنصاري هو الإشكالية المطروحة على الفكر العربي السياسي، فقد جلبت التحولات الاجتماعية ما بعد عهود الاستقلال الأولى إلى الحواضر العربية إما أبناء الريف أو البادية، وهؤلاء لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية ولكنهم حازوها من خلال المؤسسات " الحديثة " .فأصبح العمل السياسي العربي إلا فيما ندر في أيدي هذه الفئات، فأصبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية قيما وممارسات ريفية " ، وهو ما اصطلح على تسميته ب " ترييف المدينة " . وسواء كان " الترييف " حالة من " التغير " أو " التغيير " فإن اقترانه بالاستبداد قد لفت نظر كثيرين، فمثلا، حزب البعث العراقي بعد تأصيل جذوره في المجتمع العراقي أصبحت مهمته الحقيقية " توزيع الفرص " بين أعضائه ومؤيديه بالاعتماد على معيار الولاء دون الكفاءة، الأمر الذي أدى للإضرار في مسألة توزيع الموارد على استخداماتها المختلفة دون مراعاة فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ما أدى إلى " ترييف المدنية " وإعادة هيكلة المجتمع المدني عبر تكوين ولاءات جديدة في التنظيمات المجتمعية، وبالتالي تباطأت فاعليتها بهدف تثبيت نظام الحكم واستدامته . وقد شكلت هذه التكوينات مجتمعة ثقافات جديدة لم يألفها المجتمع العراقي فيها قدر كبير من الثنائية في مقدمتها إطلاق شعارات الحرية وممارسة الاستبداد، وتعميق مفاهيم الاشتراكية وفي الوقت نفسه إثراء فئات صغيرة من البنى الفوقية للمجتمع، فضلا عن سيادة عدم الكفاءة والفساد الترييف حالة معاكسة لتطور الحياة والترييف كحالة اجتماعية ثقافية تطرح أسئلة عديدة في مقدمتها التراتبية بين أشكال الاجتماع الإنساني وما إذا كان الإسلام منحازاً لأي منها؟ يرى الباحث الأردني إبراهيم غرايبة أن المجتمعات والحضارات تتجه في مسارها العام إلى التمدن، فالمدن كانت مركز الحكم والثقافة والرسالات السماوية أيضا، وتعتبر ظاهرة الترييف في المدن والسلطة والثقافة العربية معاكسة للاتجاه المفترض لتطور الحياة العامة والسياسية، وربما تكون من أسباب فشل التنمية والإصلاح والمشاركة السياسية والعامة . وتجمع الناس حول المكان في عقد اجتماعي أول؛ أهم خطوات ومقتضيات التحضر، فالمدن مركز العمل العام والاجتماعي والحضاري والإبداع، ويقتضي ذلك بالضرورة أن يكون الإنسان منتميا إلى مدينة أو تجمع حضري، فالرعاة والصيادون لا يمكن أن يؤسسوا أعمالا ومشاريع وبرامج اجتماعية وثقافية . والفكرة الجامعة للناس حول المكان هي أساس الدول والحضارات والعمل العام؛ لأنها تنشئ مصالح وتشريعات وثقافة منظمة للإدارة والحياة السياسية والثقافية مستمدة من تفاعل الناس مع المكان، وتعاقدهم على الأمن والعدل وتحقيق المصالح والاحتياجات وفق تفاعلهم مع المكان وليس ما تقتضيه بيئة الإنتاج والحماية الأخرى المنتمية إلى الريف أو البادية . بل إن غرايبة يرى أن إقامة مجتمع إسلامي كانت أساس الدعوة الإسلامية، وسميت يثرب " المدينة " في دلالة رمزية مهمة على أن الإسلام يقوم ويعمل ويطبق أساسا في مدينة، ولا يمكن أن تكون الرسالة إلا في المدينة، فلا تنجح ولا يصح أن تكون ابتداء في القرى الصغيرة والمراعي والتجمعات المحدودة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى من يسلم من أهل البادية أن يعود إليها، ليبني مجتمعاً مدينياً . والناظر في أحكام الإسلام وآدابه يجدها تؤسس لسلوك مديني متحضر يستوعب المكان الذي يجمع الناس، مثل الاستئذان عند دخول البيوت، والنهي عن رفع الصوت، والتجمل والتطيب والنظافة، والاستماع، وإشهار الزواج والشهادة عليه، وكتابة الدين، والانصراف بعد الطعام، والذوق العام، وغير ذلك كثير مما ينشئ عادات وتقاليد وثقافة مكانية مدينية ومجتمعية . والمواطنة والجنسية عقد والتزام بين طرفين؛ الدولة والمواطن، وتقتضي الانتماء والمشاركة وأداء الواجبات، والمواطنة ليست عرقا أو إثنية، ولكنها تقوم على المكان، فمواطنو الدولة يتجمعون حول فكرة جامعة للدولة تقوم على أساس المواطنة والالتزام نحوها والتمتع بالحقوق والفرص التي تتيحها، فالانتماء يقوم أساساً على المكان، والمواطنة والجنسية علاقة اجتماعية تنشأ مع المكان . التمدن ضرورة ومن ثم فإن التمدن ليس حاجة ترفية أو فلسفية، ولكنها ضرورة يقتضيها نشوء المدن بالضرورة، فلا يمكن إقامة مدن وجامعات ومجالس نيابية وشركات ومصانع دون أن يصاحب ذلك ثقافة مدينية لإدارتها وتنظيمها، والكارثة العربية حسب غرايبة تقع في استخدام الأدوات والمناهج الريفية لإدارة دول ومؤسسات ومجتمعات مدنية كبرى، فإذا كانت الثقافة الريفية أو البدوية تكونها تجمعات صغيرة قائمة على نمط معين من الإنتاج والانتماء والحماية، فلا يمكن تصور كيف ستنظم هذه الثقافة تجمعات سكانية ومهنية وسياسية كبرى ومعقدة لا يربطها ببعضها ما يربط المجموعات الصغيرة من السكان المتشاركين في النسب والمصاهرة والعمل والحياة . ويمكن سرد قائمة طويلة جداً من التشريعات والأحداث والظواهر والكوارث والمجازر التي ترد إلى ما لا يجب أن يحدث إلا في تجمعات صغيرة من البيوت الطينية أو بيوت الشعر . وفي تفسير الديكتاتورية وتسلط العسكر وحكم الأفراد يلاحظ دائما علاقة ذلك بغياب أو تهميش الطبقة الوسطى من المهنيين والبرجوازيين والمثقفين الذين يمثلون الخصائص الوصفية والتركيبية للمدينة، وبتسلط العصبيات الريفية والقبلية على الحكم والإدارة والأحزاب والجماعات . والديمقراطية أولى ضحايا الترييف إذ لا يمكن ترسيخها دون مدينة، فهي عقد اجتماعي مع المكان، وتحققها منظومة سياسية واجتماعية وشروط بيئية محيطة تجعل تنظيم الحياة السياسية والعامة عقداً تلتزم به الأطراف جميعها، وتجد فيه مصالحها، ومن دونه تضيع هذه المصالح، وتتعثر عمليات تحقيق الحاجات الأساسية، وهذا لا يتم إلا في مدينة حقيقية يتجمع فيها الناس وينظمون أنفسهم على أساس مصالحهم واحتياجاتهم . البدونة ..والعراق وهناك من يعتبر البدونة " أي إعادة إنتاج البداوة " الوجه الآخر لعملة الترييف، حيث كلاهما يمثل المرحلة السابقة على " المدينة " ، وبزوال النظام البعثي في العراق ظهر سيل من الدراسات على المجتمع العراقي كنموذج للنتائج السلبية لعمليتي الترييف والبدونة، فيرى الناشط الحقوقي العراقي الدكتور عبد الخالق حسين أن حصاد حكم حزب البعث العراقي هو أن الثقافة الاجتماعية للشعب العراقي " وهو واقع يمكن تعميمه عربياً بدرجات متفاوتة " أصبحت مزيجا من البداوة والحضارة، حسب نظرية علي الوردي التي لها جذور بنظرية ابن خلدون " البداوة والعمران " . فالعراقي مزدوج الشخصية تتصارع فيه القيم البدوية والحضارية، ولكن مع الزمن كان الجانب الحضاري في نمو متزايد على حساب الجانب البدوي، وبسبب تقديس البداوة زحفت ثقافة الصحراء والريف على المدينة . فمعظم قادة البعث من خلفية ريفية وعشائر بدوية، قاموا بإحياء القيم البدوية وتقليد حياة البدو في حياتهم اليومية، ومن ناحية التنظيم الاجتماعي تم إحياء القبلية والأحكام العشائرية في حل المنازعات بين الناس فأعطيت صلاحيات واسعة لشيوخ العشائر وتحول الشعب العراقي إلى اتحاد قبلي بين هذه العشائر، وبذلك تم إعادة المجتمع العراقي إلى البداوة على حساب الحضارة . الأكاديمي العراقي المعروف زهير المخ يقرأ تاريخ العراق منذ الانقلاب على الملكية " " 1958 من منظور الصراع بين " التمدين " و " الترييف " ، فهو يرى أن من السطحية بمكان أن ننظر إلى تلك المرحلة، كصراع بين جناحين يمثل أحدهما " الإرث الاستعماري " فيما يجسد الثاني " طموحات التحرر والاستقلال " .هذا كان سطح المشكلة فحسب، أما جوهرها فكان انتصار الريف على المدينة . فظاهرة استئثار عصبية ريفية بالسلطة كانت عنوان الحياة السياسية في عراق ما بعد 1958، هذه الظاهرة التي جرى طمسها في الثقافة السياسية العراقية الرائجة لم تتمكن الأيديولوجيا من إخفائها عن عين الناظر إلا قليلا . وهكذا احتلت الثقافة الريفية المشهد السياسي العراقي وتحولت المدينة إلى ساحة لسلطة ريفية تحمل معها عصبياتها وولاءاتها التقليدية وقيمها أيضا، فيما تعرضت النخب السياسية المدينية لضربات موجعة أفقدتها جلّ مقومات البقاء . ولم يكن غريبا أن يتم إنتاج بنية تحتية في السلوك السياسي تقوم على اعتبار مؤسسات المجتمع المدني عدوا محتملا دائما تجب مراقبته والسيطرة المستمرة عليه، انطلاقا من المبدأ القائم على حيازة الحقيقة وهو ميراث ريفي بجدارة .وفي هذا المعنى، لم تعد ثمة حدود دستورية واضحة تقيّد اعتباطية قرارات القائد " الملهم " و " الفارس " ذي الأصل الريفي . ترييف القناعات الترييف يعني حزمة من القيم والممارسات والقناعات والرموز؛ بدءا من تقديس الأرض ووصفها بأنها " عرض " ، وتحويلها من مجال لنشاط اقتصادي شأنها شأن أي معطى مادي آخر إلى مصدر للقيم، وشيوع جرائم الشرف، واتساع انتشار العنف الاجتماعي، وكراهية الإجراءات، وقلة الاكتراث بالزمن وتحديد المواعيد بربطها بالظواهر الطبيعية لا بساعة محددة " آخر النهار بعد الظهر ليلا -...."، مرورا بالانحياز إلى " ثقافة الاعتزاز " على حساب " ثقافة الإنجاز " ، حيث المكانة تقدر بناء على الأصل الذي ينحدر منه الإنسان لا بناء على ما هو قابل للكسب، والميل إلى الثقافة غير الكتابية " الثقافة الشفاهية " ، وفي نهاية المطاف ينجم عن " الترييف " روح قدرية شاملة مصدرها طبيعة الزراعة كنشاط يعتمد على أقل قدر من الجهد، حيث تتحول البذرة إلى نبات مثمر دون تدخل يذكر من الفلاح .