ما عدا النقاء يستعير جوناثان فرانزن في روايته الأخيرة اسم بطل «آمال كبيرة» لتشارلز ديكنز، ويجعله امرأة. لكن «بيوريتي» الصادرة في بريطانيا عن «فورث استيت» لا تتناول نمو الفرد بل الإنترنت، ولا تهتم بالصفاء بل بعكسه. بطلته بيوريتي، أي «نقاء»، تكره اسمها وتعتمد بيب بدلاً منه. تخرج من الجامعة حديثاً بشهادة وديون ثقيلة، وتحصل على وظيفة بغيضة في مركز اتصال في أوكلاند. تتقاسم بيتاً محتلاً مع شابّات وشبّان يساريّين فقراء يعارض بعضهم وجود المال. تنعزل والدتها الهيبيّة في كوخ في الغابة قرب سانتا كروز لتعمل على «مسعاها» الذي يتطلّب الكثير من الجمود والتنفّس العميق. تسنح فرصة التخلّص من دينها البالغ مئة وثلاثين ألف دولار حين تُعرض عليها وظيفة في «مشروع صنلايت» الشبيه ب «ويكيبيديا» في غابات بوليفيا. يعدها مدير المشروع الجذّاب أندرياس وولف باستخدام قدرته على اختراق الكومبيوتر للعثور على والدها الذي تجهل هويّته. ترفض مكرهة لكي تبقى قريبة من والدتها «كتلة الغرانيت الضخمة في مركز حياتها»، ثم تعيد النظر بعد أن تُذلّ نفسها علناً حين تتحرّش بستيفن المتزوّج، الأكبر سنّاً. يعود القسم الثاني من «بيوريتي» الى برلينالشرقية في الثمانينات حيث يهجس الشاعر الشاب أندرياس وولف بالتمرّد والجنس المنفرد. يكتب قصيدة تهجو ألمانياالشرقية فتلاحقه الاستخبارات. يتدخّل والده، الموظف الرسمي الكبير، فينجو شرط أن تقطع أسرته علاقتها به. ينتقل للعيش في كنيسة حيث يعمل مستشاراً للمراهقين المضطربين، ويقابل هناك أناغريت، ابنة الخامسة عشرة الجميلة التي تتعرض للإساءة الجنسية. يشعر بحب صافٍ يأمل في أن يخلّصه من قلقه وأفكاره القاتمة، ويحاول إنقاذها من المعتدي عليها. يرصد فرانزن رجلاً قوياً آخر هو توم أبيرانت الذي ولد في العام 1960 كوولف لأب أميركي وأم ألمانية شرقية في الولاياتالمتحدة. يحب أنابيل زميلته في الجامعة، ويتزوجان. ترفض مال الأسرة الفاحش، وتمارس نسوية متطرفة تدفعها الى إجباره على الجلوس في الحمام حين يبول. ينفصلان، ويعشق ليلى حلو، الصحافية المتقصية اللامعة في صحيفة «ذا دنفر إندبندنت» الإلكترونية التي يرأس تحريرها. تترك ليلى زوجها، الكاتب الاختباري الذي فقد وهجه، لتعيش مع توم الذي يجمع الذكاء والمسؤولية. حين يسترجع حياته يكشف عن علاقة بوالدة بيب التي تقنعها أناغريت الراديكالية بالعمل في «مشروع صنلايت». يغويها وولف الذي يكبرها بنحو أربعين عاماً فتتمسك بمصالحها أولاً، ثم تستسلم لتحس بعد ذلك أنه استغلّها ودمّرها. لماذا تبعته الى السرير، تتساءل. لتكون شجاعة، وتمارس ما يحدث في غرفة الفندق، وتنتقم من الرجال اللامبالين في أوكلاند، وتفعل تماماً ما خشيت والدتها أن تفعله، وتحصل على رجل شهير نافذ. تنتهي الرواية ببطلة تواعد شاباً من جيلها، وتحاول تحسين قدرتها على لعب التنس ومصالحة نفسها مع ما اكتشفته عن والدتها. تحفل «بيوريتي» بالأمهات المسيطرات، المتطلبات، المضطربات عقلياً، والآباء النائين، الغائبين جسدياً وعاطفياً. يحاول توم نسيان الماضي الذي لا يمضي، ولا ينتهي اتصال لبيب بوالدتها إلا وقد أشعرت إحداهما الأخرى بالتعاسة. تزور صديقة أندرياس والدته وتتأخر، فيتخيلهما «تثرثران، تثرثران، تثرثران. قحباوان، قحباوان، قحباوان». يتساءل ما إذا كانت الذكورة توازي الضراوة، وتبلغ الحالات التي يفكر فيها رجال بقتل أمهاتهم ستاً وفق ناقدة «ذا غارديان». في الرواية أيضاً جريمة قتل، تسريب إلكتروني، سلاح نووي مفقود وأسرار تبلغ درجة جهل بيب الاسم الحقيقي لوالدتها. يكره فرانزن فايسبوك وتويتر، ولا يهتم إذا راقبت وكالة الأمن القومي رسائله الإلكترونية لأن الأميركيين سيحاسبونها عند الإساءة. يحبّه معظم النقاد، ومبيع كتبه هائل. يذكر نفسه في لقاء بين بيب وكاتب في «بيوريتي»: «هناك جوناثان كثيرون (في الوسط الأدبي). إذا قرأت «نيويورك تايمز» وحدها تعتقدين أنه الاسم الأكثر شيوعاً في أميركا. إنه يعادل الموهبة، العظمة، الطموح، الحيوية». بعدما حقّق الشهرة والثروة مع «التصحيحات» شعر بفراغ في حياته حين أشرف على الخمسين. كشف لصحيفة «ذا غارديان» أنه فكر وصديقته كاثي تشتكوفتش بتبنّي طفل عراقي يتّمته الحرب، لكن صديقه هنري فايندر من «نيويوركر» أقنعه بالعدول عن الفكرة وهو يشكّل صليباً بمسواكي أسنان في حانة. دبّر له العمل مع شباب اشتركوا في دراسة تناولت الخريجين الجامعيين، فواظب عاماً على لقائهم، وشفي من غضبه مما اعتقده تخلّي جيلهم عن المثالية والغضب. وُلدت بيب من عمله معهم، وكانت ذكية، مرحة وخرقاء كما يحب الأشخاص الذين يحبهم. طائر الفينيق كان عائداً من دفن والده حين علم أن «هل كانت لك أسرة يوماً» على اللائحة الأوليّة لجائزة مان بوكر. شعر بيل كليغ أنه في وضع «إغريقي» ولم يستطع الفرح. لم يكن والده عزيزاً دائماً. أدمن الكحول والغضب، واعتاد البيت معه الصمت الصاقع، الأبواب المدوّية وانفجارات الغيظ. انعكست حساسية الطفل حصراً جسدياً، وبات يمضي ساعتين في الحمام من دون أن يستطيع التبوّل. لم يكتشف الأطباء السبب، فتفاقم غضب الأب الذي ضرب باب الحمام بقوة وهو يسأل الصغير عما يفعله. بدأ بيل يشرب سراً في غرفة نومه وهو في الثانية عشرة، ومنحته الكحول غياباً مشوّشاً أراحه. أضاف الكوكين الى الكحول في الجامعة، وعمل في وكالة نشر معروفة في مانهاتن. لكنه شعر بعدم الاستحقاق والخداع، واستنجد مجدداً بصديقيه السرّيين ليغيب. حين أسّس وكالته الخاصة مع شريك انهار فجأة، واختار الجانب المظلم من حياته. انتقل شهرين بين فنادق مانهاتن يشرب ويشمّ ويمارس الجنس فخسر شركته وصديقه. هزل وأصيب بالبارانويا، وظنّ أن سائقي التاكسي يراقبونه لمصلحة دائرة مكافحة المخدّرات. حاول الانتحار بمزيج من المخدّر، الكحول والحبوب المنوّمة، لكنه قصد منزله السابق وهو تحت تأثير المزيج ونُقل الى المستشفى. حين نضب ماله، قرّر أن يصحو، وفعل. كتب حياته في «صورة مدمن شاباً» و «تسعون يوماً: مذكرات شفاء»، وروى كيف اعتذر والده منه بعد انهيار زواجه الثاني. تصالحا، وسامحه ثم طلب الغفران منه لأنه قاطعه. وظّفه زميل سابق، واستعاد زبائن قدماء. ولئن انتكس مراراً نجح في البقاء صاحياً منذ أربعة أعوام، وأسّس وكالة مجدّداً. اكتشف مثليّته حين كان في السادسة والعشرين، ويعيش في نيويورك مع زوجه، مدير الاتصالات في شبكة إي بي سي. كتب روايته الأولى»هل كانت لديك أسرة يوماً» في سبعة أعوام، وحشاها عذاباً كما فعلت مواطنته هانيا ياناغيهارا في «حياة قليلة» التي وردت أيضاً في اللائحة الأولية لمان بوكر. تستعدّ جون للاحتفال بزواج ابنتها لولي في حديقة المنزل في بلدة صغيرة في كونكتيكت يقصدها أثرياء نيويورك في نهاية الأسبوع. لكن بيتها يحترق من تسرّب الغاز فجر يوم الزفاف. تموت لولي وخطيبها وليم ووالدها آدم وصديق والدتها لوك، ولا يجد حتى أكثر المعتادين على المصائب عبارة عزاء يقولونها لجون. تهجر البيت بعد الجنازات، وتقود سيارتها هرباً من فاجعتها السوريالية حتى تجد نفسها في نزل على الطرف الآخر للبلاد. تتناوب أصواتاً عدة، حزينة وهادئة، على القصّ، ويكتشف القارئ مدى المأساة التي قضت على بدايات جديدة وفرص ثانية في العلاقة بين الأهل والأولاد. كانت جون تصالحت لتوّها مع لولي التي غضبت من انفصالها عن والدها، وعاد الاتصال بين ليديا، والدة لوك، بعدما أساءت إليه وأقصاها. يرسم كليغ أجواء البلدة الصغيرة، ويدع أبناءها يجمعون أجزاء المأساة، وبينهم مراهقة قد تحمل بعض المسؤولية عنها. يروي معدّو الطعام وعمال التنظيف والحدائق، ونكتشف أن لوك كان محبوباً في البلدة وإن أمضى بعض الوقت في السجن، وأن أمه ستعبر باقي حياتها في ظلّ الندم. لكن الكاتب القادم من العذابات الطويلة ينهي روايته الصادرة في بريطانيا عن دار جوناثان كيب بالأمل والسماح والقدرة على النهوض مجدداً لمتابعة الحياة حين لا يبقى فيها من يستحق ذلك.