انطلقت من حياة البلدة الصغيرة لتحيط بالوضع البشري مثل الأميركيين وليم فوكنر وجون أبدايك. لا بالرواية الكبيرة التي حلمت بها، بل بقصص من اثنتين وعشرين صفحة، ثلاث وخمسين صفحة أو سبع وسبعين صفحة. اقتربت الكندية أليس مونرو (83 عاماً) من الرواية الصغيرة، لكنها لم تبلغها. ولم تستطع الكتابة إلا حين توقفت عن التفكير بالرواية الكبيرة. بقيت تكتب سراً وترسل المخطوطات إلى الناشرين لترفض وتعاد إليها. خمسة عشر عاماً تكتب وتُرفض لتكتب وترفض إلى أن جلست في السابعة والثلاثين في مكتبة زوجها. كتبت من دون هاجس هذه المرة، وأحسّت بأنها تقوم بمهمة في عالم حقيقي. حمل البريد ست نسخات من مجموعتها الأولى فذُعرت وخبأتها في الخزانة تحت الدرج. كان عليها الانتظار أسبوعاً لتجد الجرأة على قراءة كتابها وتنتهي راضية، وتصبح كاتبة رسمياً. قال جوناثان فرانزن إنها أفضل كاتبة قصصية في شمال أميركا، وقارنها جون أبدايك والإنكليزية أ س بايات بتشيكوف وفلوبير. عاشت أسرتها في غيتو مع المهرّبين وبنات الهوى، لكن والدتها شاءت أن تتصرف أليس مثل ليدي، فنبذتها البنات لغرابتها. نفرت من الطبخ والكروشيه، واستعادت في الطريق الطويل إلى المدرسة القصص التي قرأتها، وغيّرتها. «حورية البحر الصغيرة» للكاتب الدنماركي هانز كريستيان أندرسن تتحوّل إنسانة لتحظى بحب الأمير لكنه لا يعشقها فتموت. رفضت أليس التضحية العبثية، وكافأت الحورية العاشقة بنهاية سعيدة. كان عليها في التاسعة أن تضحي وتهتم بالبيت والأم حين أصيبت هذه بمرض باركنسون، لكنها رفضت الشهادة المطلقة. غادرت البيت لتتابع تعلّمها عندما نالت منحة من جامعة وسترن أونتاريو، وتزوجت زميلاً رزقت منه أربع بنات، ثم انفصلا لتتزوج زميلاً آخر. من أفضل كتّاب القصة «القصيرة» التي يتراجع قراؤها في الوقت الذي تزداد جوائزها. أصدرت أكثر من دزينة مجموعات في نصف قرن، وتراكمت الجوائز عليها. نالت مونرو جائزة مان بوكر الدولية في 2009، وعوّضت عن وصمة المحليّة الضيقة المرتبطة بالأدب النسائي. إحدى شخصيات «سعادة أكثر مما يجب» تقول إن القصة القصيرة «مخيّبة. تبدو كأنها تنقص سلطة الكتاب، وتظهر الكاتب شخصاً يتعلّق بأبواب الأدب بدلاً من أن يستقر داخله». لكن «الروائية» واضحة في كتابتها، فمونرو تبحث دائماً عن غاية ما وسط التشوّش والتشتّت في التفاصيل المعيشة من لحظة إلى أخرى، من يوم إلى يوم. يجب أن تكون هناك مرجعيّة ما لهذه الحياة العبثية سواء قصرت أو طالت. وكما كانت الكتابة الإطار الذي انتظمت حياتها به وسط الأسرة والواجبات التي ضاقت بها، ثمة شكل قاطع تبحث شخصياتها عنه ليعرّف حياتها ويحدّده. لكن، كثيراً ما تغيّر نظرة أو حركة يد هذه الحياة إلى الأبد، ومن دون كلمة واحدة توضح سبب الانفصال الأليم أو تخفّف من وقعه. تأتي الحياة الداخلية أولاً لدى مونرو، وتبقى ملكاً خاصاً من أسباب التكتّم حوله معارضة البوح «النسائي» البغيض. في «الهاربة» ثلاث قصص متّصلة تبدأ في الستينات عن مراحل مختلفة من حياة جولييت، ابنة الحادية والعشرين. في «صدفة» تعمل معلّمة لاتين موقتّة فيما تعدّ أطروحة الدكتوراه، وتتلقى رسالة على عنوان المدرسة كُتب عليها: «جولييت (معلّمة)». كانت من رجل متزوج تعرّفت إليه وجهل اسم أسرتها. يطلب لقاءها في بلدة ريجاينا حيث يقيم ابنه، ويكرّر القول في النهاية: «أفكر بك غالباً». تدرك أن الناس يقولون ذلك بدافع المواساة أو رغبة في إبقاء الآخرين معلّقين، لكنها تنوي تلبية طلبه. في القطار تقابل صياد سمك يخبرها أنه يعتني بزوجته المريضة وعلى علاقة بامرأة. تقصد إريك بعد مدة لتجده انتهى لتوّه من تقبّل العزاء بزوجته، فتتذكّر وهي تنتظره كيف قبّلها في القطار على وجهها وعنقها، وكيف خافت أن يكتشف أنها في «نزفها الشهري» فقالت إنها عذراء. يضحك ويتركها فجأة كأنهما التقيا بالصدفة، وتحنق من غبائها وهي تفكر أن عذريتها لم تقف في طريق الرغبة في ويليس بارك. في «قريباً» التي تدور في 1969 تحمل جولييت طفلتها من إريك لتزور أهلها. يطلب منها والدها النزول في المحطة السابقة لمحطة البلدة المغلقة. تدرك أنه كذب عليها لدى وصولها خجلاً من إنجابها من دون زواج، فتُحبط وتغضب. تكتشف أن المعلّم بات يعمل في توزيع السلع على الحوانيت، وأنه استقال بعدما سمع ثرثرة عنها. تنام من دون أن تغلق الستارة، فيسقط ضوء الليل على وجهها. تتمنى لو شربت قليلاً من الويسكي («إذاً تشربين الآن؟» قال والدها). تفكر أنها لا تستطيع الانتظار لتعود إلى البيت، وتعرف أن المنزل الذي تنام فيه الآن ليس بيتها. تعود مونرو إلى جولييت في «صمت» بعد وفاة إريك وارتباطها بأكثر من علاقة. في السادسة والأربعين الآن، تقدّم برنامجاً تلفزيونياً يوفّر لها الشهرة. تلجأ ابنتها بينيلوبي، التي نشأت بلا دين وباتت في الحادية والعشرين، إلى مركز روحي من دون أن تعلم أمها. تحس جولييت بأن موقف ابنتها يضعفها، وبعدما كانت بينيلوبي ترسل لها في عيد ميلادها هي بطاقة بريدية تكتم فيها عنوانها تتوقف دفعة واحدة عن كل أنواع الاتصال. بعد أعوام تلتقي جولييت صديقة طفولتها هيذر التي تخبرها أنها رأت بينيلوبي مع اثنين من أطفالها الخمسة. تزوجت ابنتها إذاً أو ساكنت، ولم تمضِ حياتها في التأمل تعويضاً عن حرمانها الدين. استنتجت من كلام هيذر أن بينيلوبي ميسورة، ومهملة لمظهرها. تعترف بأنها عاشت كأم بلا روادع أو احتشام أو ضبط للنفس، وتفكر أنها فقدت ابنتها وإن كانت لا تزال تأمل في عودة الصلة بينهما من دون أن تنهك نفسها. لم يأتِ العمر بالنقصان، واحتفظت مونرو برفعة الكتابة في سبعيناتها. هجست بالبدايات والفرص الثانية في «الهاربة» و «المشهد من كاسل روك» التي استرجعت فيها هجرة أجدادها الاسكتلنديين إلى شمال أميركا في أوائل القرن التاسع عشر. في 1818 يركب الأرمل جيمس لَدلو الباخرة مع ثلاثة من أولاده إلى نوفا سكوتيا، كندا، التي يبلغها بعد ستّة أسابيع. يكتب عن الرحلة إلى أحد أولاده الباقين في الوطن السابق، ويغضب حين ترد رسالته حرفياً في مجلة. استندت مونرو إلى وثائق عدة كانت بينها يوميات وليم، أصغر الأولاد، عن الرحلة. أمضت أكثر من عقد تبحث في السجلات العامة الاسكتلندية، والأوراق الخاصة وواجهت تناقضات في الكتابة الوثائقية، لا لاختلاف الشهادات حول الأمر الواحد فحسب، بل أيضاً لحيرتها في تناول ما يخصّها وما لا يخصّها. قالت إن مجموعة «المشهد من كاسل روك» تهتم بالحقيقة أكثر مما يفعل القصّ عادة «لكن، ليس ما يكفي لكي أقسم على ذلك». بنى جدودها «حياة مترهّبة خالية من النعمة أو لحظات التسامي» واكتشفوا سريعاً أن أرض الأحلام أيضاً كدح وفقر ومرض وموت. كان هناك كاتب في كل جيل، منهم راعي غنم ووالدته التي حفظت الأغاني الشعبية واستعان السير وولتر سكوت بها حين جمع «أغاني حدود اسكتلندا»، فاستاءت لأن هذه كانت للغناء لا للطباعة. والد الكاتبة ألّف رواية عن حياة الروّاد، واقتنعت والدتها التي اعتقدت أن الكتابة هي الخط، بأنه أفضل من أليس. عمل حارساً ليلياً وأنشأ مزرعة ثعالب ليبيع فراءها. في مجموعة «منجرف» تبوح برأي الأب فيها: «استطعت أن أسمعه يقول «حسناً، لم أقرأ عنك شيئاً في ماكلينز». حتى لو قرأ كان سيقول: «حسناً، لم يعجبني ما قرأته كثيراً». كان سيقول ذلك بنبرة مرحة، متسامحة، لكنه كان سيترك لديّ وحشة الروح الأليفة. كانت رسالته واضحة: عليك أن تكافحي لتنالي الشهرة ثم تعتذري عنها، وستلقين اللوم سواء حصلت عليها أم لا». تؤرّخ العلاقات للزمن النسائي قبل تحرّر الستينات وبعده. يرفض جيل الأمهات اقتراب الأزواج منهن بعد مرضهن أو تعاطي الرجال الكحول، لكن بناتهن يعتبرن المتعة في الفراش من واجبات الشريك. لا يتناول أدب مونرو «النسائي» حياة النساء والأطفال وإن كانوا أبطالها غالباً. لا نعرف ما إذا كانت رجلاً أو امرأة من نصّها، ويبقى هاجسها استبطان العمق الإنساني في ظلمته ونورانيته. تحضّر لحركة شخصياتها بمناخ روائي يتجنّب الحوار غالباً، على رغم براعتها فيه، ليمنح الأولوية للمونولوغ. في «حب امرأة طيبة» تعتني الممرضة إيند بزوجة زميل مدرسة سابق، وتقرّب رعاية طفلتيه وحلّ الكلمات المتقاطعة بينهما. تخبرها مسز كوين أن الطبيب تحرّش بها فقتلته مع زوجها. تنوي إيند إخبار الشرطة ثم تحلم بأنها تنام مع والدتها وأطفال ومرضى ممضّدين فتعيد التفكير. إذا كان لا وعي الأصحاء ينتج هذه الأحلام المثيرة للاشمئزاز، لا غرابة في أن تحلم مريضة أنها ارتكبت جريمة. تنتهي بعشق كوين، الذي نهرته في المدرسة، بعد وفاة زوجته. في «حلم أمي» تتقاطع الحياتان الداخلية والخارجية، ويثير حب طفلة صراع الأمومة بين والدتها وعمّتيها. تعيش شابة إرلندية مع شقيقتي زوجها الوسيم بعد مقتله في آخر الحرب العالمية الثانية. ضحّت الشقيقتان بفرصة العلم وصحّة أسنانهما من أجله، وعوّضت إيونا، إحداهما، عن خسارته بالاستئثار بالاهتمام بطفلته التي تنفر من والدتها. تحلم أرملته بأنها تركت طفلتها في الثلج خارج البيت، وحين تزور الشقيقتان قريبة تسكن بعيداً من القرية يدفع صراخ الطفلة المستمر الأم إلى إعطائها حبّة للنوم بالخطأ، وتظنّها إيونا ميتة فتسكب غيرتها ظلماً وعدواناً. في «أتى الدب عبر الجبال» تصاب فيونا بالزهايمر بعد نصف قرن من الزواج. يتألم غرانت، زوجها، حين تصادق نزيلاً في المصح وتدعوه «قلبي العزيز»، ثم توجعه معاناتها حين يعود أوبري إلى بيته. يحاول غرانت إقناع زوجة أوبري باصطحابه إياه لزيارة فيونا في المصح، فترفض. ينام معها فتقبل لكن فيونا تكون قد نسيت أوبري عندما يصحبه زوجها لزيارتها.