توارت صحيفة «التحرير» المصرية الخاصة أمس، بعدما ودعت قراءها بمانشيت في صدر عددها الأخير أول من أمس: «وداعاً... وإلى لقاء»، إثر قرار لمجلس إدارتها بوقف الإصدار الورقي، عكس حجم الأزمة المالية التي تضرب الصحافة المصرية، وإلى حد ما الفضائيات الخاصة. الصحيفة التي حملت اسم ميدان التحرير وصدرت في أعقاب ثورته في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، اتخذت منحى المعارضة بلا سقف للمجلس العسكري الذي حكم البلاد في أعقاب تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، ثم جماعة «الإخوان المسلمين» إبان فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، قبل أن يشتريها رجل الأعمال أكمل قرطام الذي لم يستطع الوفاء بالالتزامات المادية لاستمرار الطبع، فقرر الاكتفاء بالإصدار الرقمي، واضعاً مستقبل مئات الصحافيين والمتعاملين مع الجريدة على المحك. وجسد مشهد صحافي في الجريدة يسكب على جسده عبوة كيروسين خلال وقفة احتجاجية على سلالم نقابة الصحافيين، اعتراضاً على قرار المالك، الأزمة التي تهدد آلاف الصحافيين ممن فتحت لهم عشرات الصحف الخاصة الباب لولوج بلاط «صاحبة الجلالة»، ولم تعد صحفهم بعيدة من مصير «التحرير». وسجلت نقابة الصحافيين موقفاً رافضاً لغلق الجريدة و «تشريد العاملين فيها». وقالت في بيان إن «الإجراء مخالف للقانون والدستور...». سنتصدى بكل قوة لأي محاولة للتلاعب بحرية الإصدار وتحويلها باباً خلفياً للإضرار بمصالح الصحافيين». ولم تملك النقابة إلا الوعد ب «إعداد قائمة سوداء لأعداء حرية الصحافة من ملاك الصحف، تضم أي رجل أعمال يتلاعب بالإصدارات، لمنع أي تعامل مع هؤلاء»، وسط حديث عن مراجعة حدود العلاقة بين النقابة وملاك الصحف. ورفعت الصحف أسعار بيعها بنسب متفاوتة قبل شهور، وخفض بعضها رواتب صحافيين، واستغنت أخرى عن متعاونين، كما أنهت فضائيات عدة عقود عمل معدين فيها، وقلص بعضها حجم برامجه السياسية لمصلحة البرامج الترفيهية المُنتجة في الخارج والتي تلقى رواجاً إعلانياً. وتُخطط شركات لإغلاق قنوات ضمن شبكاتها، خصوصاً الإخبارية منها. وتوقع رئيس تحرير جريدة «الشروق» الخاصة عماد الدين حسين تكرار تجربة «التحرير» مع صحف أخرى. وقال ل «الحياة»: «من الممكن أن تُغلق صحف أخرى في المستقبل القريب إذا استمرت الظروف على ما هي عليه. هناك مؤشرات واضحة على تراجع توزيع الصحف... عدد النسخ المطبوعة في العام 1974 كان أكثر من 4 ملايين نسخة، والآن متوسط إجمالي توزيع الصحف المصرية لا يتجاوز نصف مليون نسخة في اليوم». واعتبر أن الطفرات التي شهدها توزيع الصحف خلال الثورة في العام 2011 ثم إبان التظاهرات ضد «الإخوان» في حزيران (يونيو) 2013 «أعطت انطباعات خادعة»، باعتبار أن الأحداث الكبيرة عادة ما تمنح الصحف رواجاً. ورأى أن «بعض رجال الأعمال فقد بريق الحديث عن أن الإعلام هو سلاح رئيس... عادت الأسواق إلى طبيعتها، فاستيقظنا على أزمة كبيرة». وأشار إلى أن «مشكلة الفضائيات أكبر من أزمة الصحافة الورقية، لأن معظمها لم يقم على أسس اقتصادية حقيقية بل على أسس سياسية»، مضيفاً أن «صناعة الإعلام تدفع فاتورة تعثر الاقتصاد وفواتير أخرى... المعاناة ستستمر شهوراً وربما لسنوات، والسبب الجوهري هو الانخفاض في المخصصات الإعلانية للشركات الكبرى والذي هبط إلى النصف تقريباً». واتفق أستاذ الإعلام سامي عبدالعزيز مع رئيس تحرير «الشروق» في إمكان تكرار واقعة إغلاق الصحف لأسباب مادية. وقال ل «الحياة»: «أتوقع إغلاق مزيد من الصحف لأن الزحام في الإصدارات حدث في ظل ظروف اقتصادية غير مجدية، ومن دون إعداد دراسات جدوى اقتصادية مسبقة. من المؤكد أن الإغلاق إجراء قابل للتكرار». وأضاف: «كان هناك تفكير قصير النظر، وهو محاولة ملء فراغات الإعلام القومي (الحكومي) سواء كان تلفزيونياً أو مطبوعاً، لكن المشاريع التي ظهرت ليست مبنية على دراسات مستقبلية، فضلاً عن عدم استيعاب المتغيرات العالمية والتطور التكنولوجي الذي مكّن أي مواطن من أن يمتلك صحيفة أو محطة تلفزيون لنفسه». وتوقع عبدالعزيز أن تضرب الأزمة الفضائيات قريباً «لغيبة دراسات الجدوى، وعدم وجود فوائض تمويلية تسمح باستمرار الضخ في صناعة الإعلام»، إلا أنه رأى أن الإعلام الحكومي سيظل بمنأى عنها. وقال: «أتصور أن الصحف القومية من الصعب أن يحدث معها إجراء الإغلاق لأنها ركيزة من ركائز أي بلد». ولفت إلى اتجاه غالب للاعتماد على النشر الإلكتروني. لكن رئيس تحرير موقع «إعلام دوت أورغ» الصحافي محمد عبدالرحمن أشار إلى أن النشر الرقمي أيضاً يواجه أزمة مالية طاحنة. وقال ل «الحياة» إن «النشر الإلكتروني سيواجه المشاكل نفسها، فلا ابتكار أو اجتهاد في تعديد مصادر التمويل، إذ يُفضل المُعلنون الإعلام المرئي أو الإذاعي، لعدم وجود ترتيبات مُتقنة للإعلان الرقمي، ما يحد من الموارد الإعلانية». وحدد مشاكل أخرى تقلص موارد النشر الإلكتروني منها عدم انتشار ثقافة دفع اشتراكات مسبقة للاطلاع على محتوى المواقع الإلكترونية التي يتداخل معظمها ويقدم المضمون نفسه، فضلاً عن نشر المواد الصحافية على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يُقلل من نسب الإقبال على المواقع الإلكترونية. وحمل عبدالرحمن «الركود السياسي» مسؤولية «كبيرة جداً» عن الأوضاع التي آلت إليها الصحافة «نتيجة إحساس المُلاك بأن هناك رغبة في أن يسود صوت واحد». وقال: «هم رجال أعمال يرهنون استمرار صحفهم بمصالحهم الاقتصادية... الصحافيون أيضاً أخطأوا كثيراً في السنوات الماضية، بعضهم زيف حقائق وقدم شخصيات لم تكن تستحق تصدر المشهد، ومن ثم انصرف الناس عنهم، ولم يعد إغلاق جريدة أمراً يثير الرأي العام». وعبر عن اعتقاده بأن «الصحافة المطبوعة لم تمت، لكن يبقى السؤال: هل تستطيع أن تُقدم الجريدة ما يدفع القارئ إلى شرائها؟ لابد من وقفة أخيرة لإعادة التخطيط الاقتصادي قبل أن يموت الجميع».