تقدم «بادن فورتمبرغ» Baden-Württemberg نفسها للزوار كلوحة بانورامية مذهلة ترسم معالمها الغابة السوداء، والبيوت المزينة بطرابيش القرميد الملون، والأنهار، والبحيرات، والكروم، والمروج الخضراء، والمراعي الممتدة على مدى النظر. ولذلك فهي قبلة السياح الذين ينتظرون الوصول إليها بشغف ليشهدوا لقاء الطبيعة بالروائع العمرانية التي تجيد التعاطي مع البيئة المحيطة بها. وكم تولد لدي الحب من النظرة الأولى لتلك الولاية عندما تعرفت إليها عن كثب من خلال رحلة سياحية استمرت ثلاثة أيام، وزعتها بين قراها وبلداتها ومدنها الصغيرة التي تحاكي التاريخ وتنظر إلى المستقبل بكل بفخر واعتزاز. توغلت عبر طرقات مر عليها كثيرون من قبلي، بينهم عدد كبير من الأسماء اللامعة التي تركت بصماتها البارزة في الأدب والفلسفة والعلوم الطبيعية. فعلى تلك البقعة الجغرافية من ألمانيا ولد «شيللر» Schiller الذي يعتبر إلى جانب «غوته» Goethe من مؤسسي الحركة الكلاسيكية في الأدب الألماني، وكذلك «هيغل» Hegel الذي يعد من أهم الفلاسفة الذين ساهموا في تأسيس حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر. وعلى أرض «بادن فورتمبرغ» أبصر النور «أينشتاين» Einstein الذي وضع النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة اللتين حققتا له شهرة إعلامية منقطعة النظير بين جميع الفيزيائيين. ولا ننسى أن «ثيودور هوس» Theodor Heuss أول رئيس لجمهورية ألمانيا الاتحادية عقب تأسيسها عام 1949 هو من بلدة «براكنهايم» الشهيرة بكروم العنب والحقول الخصبة التي تشكل صورة مصغرة عن هذه الولاية التي تعبق بالإرث الحضاري والفكري والسياسي العريق. اليوم الأول تبدأ الرحلة في رحاب «بادن فورتمبرغ» من عاصمتها مدينة شتوتغارت التي تحفل بتاريخ عريق ومساحات خضراء تُتحف أنظار الزائرين. على أعلى برج في محطة القطار الرئيسة في المدينة، تدور «نجمة مرسيدس» التي تدل على صناعة السيارات المسيطرة على الحياة فيها. فمعظم أماكن العمل يوفرها هذا القطاع. هنا مقر شركتي «مرسيدس» و «بورشه». وهناك أيضاً عدد كبير من الشركات الموردة لقطع السيارات التي اتخذت من المدينة مقراً لها. كنت وجهاً لوجه مع آخر منتجات المرسيدس المتنوعة الأشكال والألوان عندما دخلت متحف «مرسيدس بنز» Mercedes-Benz Museum، وتعرفت فيه إلى تاريخ المرسيدس الطويل الذي يمتد لحوالى مئة وعشرين سنة. والمتحف هو أكبر متاحف المرسيدس في العالم. في متجره الواقع في الطابق السفلي، سيكون بإمكانكم شراء أي نوع من نماذج سيارة المرسيدس المعروضة على الرفوف وحملها معكم إلى أرض الوطن. ولسيارات البورشه حصتها من حيث المتاحف، فشتوتغارت تضم «متحف البورشه»Porsche Museum. أن حجم المتحف الصغير مقارنة مع اسم هذه السيارة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس بتصاميمها التي تخاطب الفئة الشابة، دفع القيمين على المتحف الى بناء متحف جديد وصلت تكلفته إلى حوالى 50 مليون يورو ليعطي هذه السيارة حقها. وقائمة المتاحف وصالات العرض في رحاب شتوتغارت تكاد لا تنتهي، منها الصالة التي تمثل النظام الشمسي والمعروفة باسم «كارل زيس بلانيتاريوم» Carl Zeiss Planetarium وفيها ستدهشون عند رؤية السماء وهي تتلألأ بالنجوم في منظر بديع ومثير. ويعرف أهل المدينة جيداً كيف يصطادون الفرح، وسوف تكتشفون ذلك بأنفسكم عندما ستقفون مع الآلاف في ساحة شتوتغارت الرئيسة «سكولسبلاتز» Scholssplatz لتشاهدوا الاستعراضات الفنية التي تقام في الهواء الطلق وتستمر لساعات طويلة. وقد علمت أثناء جولتي السياحية انه نتيجة للقصف المكثف الذي تعرضت له المدينة خلال الحرب العالمية الثانية، أعيد بناؤها على عجل بحيث لم تؤخذ الأبنية التاريخية بعين الاعتبار، وتم تحويلها إلى مدينة حديثة لتتماشى مع القرن العشرين، ولتناسب مكانتها كمركز لصناعة السيارات. وعلى رغم ذلك يجد المرء على جانبي الشارع الكبير مناطق تاريخية مثل حي «بونينفيرتل» Bohnenviertel الذي أقيم في القرن الخامس عشر كمنطقة سكنية، ويتميز بشوارعه المرصوفة بالحجارة وأبنيته التاريخية ومتاجره التي تعنى ببيع المنتجات التقليدية ومقاهيه العديدة. وفي قلب المدينة قرب ساحة «شيلر» أحد أبرز القصور في الولاية ويطلق عليه اسم «القصر الجديد». وقد كان مقراً لملوك الولاية في العصور الوسطى، وهو يستخدم اليوم مقراً لوزارتي المالية والثقافة، ولاستقبال الشخصيات والفعاليات الرسمية، وأمامه تنبسط ساحة ضخمة تصبح عصب الحياة في المدينة خلال مواسم الاحتفالات والمهرجانات. اليوم الثاني هل سمعتم ببلدة الصفقات الرابحة؟ إذا كان الجواب بالنفي، فلا تترددوا بالتوجه إلى بلدة «متزينغن» Metzingen التي ستقدم لكم فرصة شراء أجود الماركات العالمية بأسعار مغرية جداً. لا تبعد «متزينغن» أكثر من 30 كيلومتراً إلى الجنوب من شتوتغارت. الطريق المؤدية إليها مغزولة بالقرى الصغيرة التي تحتضن بيوتاً تقليدية ذات طابع معماري جميل. وكم كان يزيد من حلاوة تلك البيوت نور الشمس الخجول الذي كان يخترق الضباب والغيوم الكثيفة ليعطيها مسحة من النور والإشراق. وبينما كنت أراقب تبادل المواقع بين أشعة الشمس والغيوم، أطلت علينا «متزنغن» التي ترتاح بسلام عند أقدام جبال «شوابيا». فور وصولنا هناك، رحبت بنا المسؤولة عن ترويج السياحة في البلدة وأخبرتنا عن تاريخها وشهرتها الواسعة لدى الشعب الألماني ولدى كثير من السياح كونها ملاذاً غنياً لمحبي التسوق. وتمتلك «متزنغن» أكثر من 40 مصنعاً لإنتاج أشهر الماركات العالمية، فضلاً عن متاجر لبيع تلك المنتجات بأسعار معقولة. ثم أضافت أن «متزينغن» تقدم فرص العمل لحوالى 10 آلاف شخص من مجمل سكانها الذين يصل عددهم إلى 22 ألفاً. أثناء جولتنا السياحية في البلدة دخلنا مركز «أوتلت سيتي متزينغن» Outlet City Metzingen الذي أدهشنا حقاً بالكم الهائل من الماركات العالمية والأسعار التنافسية المجتمعة تحت سقف واحد. إنه بالفعل «جنة المتسوقين» والمكان الذي يجمع الجودة والنوعية والحسومات المغرية التي تصل أحياناً إلى 70 في المئة. في هذا المركز ستكونون أمام أسماء معروفة في عالم الأزياء والموضة أمثال: «باربري» Burberry، «اسكادا» Escada، «بيار كاردان» Pierre Cardin، «بولو رالف لورين» Polo Ralph Lauren، «تومي هيلفيغر» Tommy Hilfiger، «هوغو بوس» Hugo Boss وغيرها كثر. ولذلك يعرف أن أكثرية زوار شتوتغارت أو ميونيخ أو حتى بادن بادن يضعون زيارة هذه البلدة على قائمة برامجهم السياحية للاستفادة من تلك العروضات التي تجذب الآلاف يومياً. اليوم الثالث لا بد أن يتوقف زوار «متزنغن» أمام مآثرها التاريخية التي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن مراكزها التجارية العديدة. استقبلت يومي الثالث في «بادن فورتمبرغ» في إحدى ساحاتها القديمة المعروفة ب»مارتنسكرتشبلاتز» Martinskirchplatz، وانضممت إلى قافلة السياح المتواجدين في هذه الساحة التي تدور فيها الحياة ليلاً نهاراً، والتي تعيش ماضيها العريق وتحافظ على طابعها الكلاسيكي الذي لم تصل إليه يد الحداثة. وعلى رغم صغر مساحة البلدة فإن فيها أكثر من ساحة تاريخية مزدانة بالمباني الأنيقة التي تملأ النظر بدفء العصور الماضية التي تنتمي إليها. وكم يطيب التجوال في شوارع البلدة، وأزقتها الضيقة والتحدث مع أهلها الذين يلاقون الجميع بالبسمة والترحاب. عند منتصف النهار، كان يتوجب علي القيام بمغامرة جديدة ألا وهي سلوك الطريق المعروفة ب «هنريك شيكارت» The Heinrich-Schickardt Route. والرحلة عبر هذه الطريق تشمل زيارة 17 بلدة ألمانية وفرنسية تتشابك فيما بينها لتشكل الطريق الثقافية الأوروبية منذ عام 1992. وكانت المرشدة السياحية تتحدث بفرح كبير عن «هنريك شيكارت» المهندس المعماري الألماني الذي عاش بين 1558 - 1635، والذي وضع بصماته الهندسية على مجموعة من القصور والمباني التاريخية المنتشرة في تلك البقعة الجعرافية، وبالأخص على برج كنيسة القديس مارتن وسط بلدة «متزنغن». أثناء تلك الجولة السياحية مررنا ب «هارنبرغ» Herrenberg البلدة التي أبصر فيها «شيكارت» النور، ورحنا نطوف عبر طرقاتها المغمورة بحكايات الماضي، ثم عرجنا على بلدات أخرى مترامية في أحضان طبيعة مميزة تخترقها الغابات والمراعي والأنهار، وتزينها قمم الجبال المكللة بالثلوج. ومن المشاهد الملفتة للنظر حرص سكان تلك البلدات على تخزين كميات كبيرة من الحطب المقطع والمرصوص بطريقة هندسية جميلة حول بيوتهم لاستخدامه في مواقد التدفئة. ومع تلك المناظر المشحونة بجمال الريف الألماني ودعنا ولاية «بادن فورتمبرغ» التي تتباهى دائماً بعظمائها وعباقرتها ومبدعيها.