تتسم العلاقة مع الغرب بالتعقيد والتشابك، إذ يتداخل الكثير من العوامل التي تلقي بظلال سلبية على مسار هذه العلاقة، عوامل تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية تجعلنا غالباً في موضع نفي التهمة إزاء خلاصات المستشرقين القدماء والمحدثين عن عالمنا العربي والإسلامي. وغنيٌّ عن البيان أن التحيز المفترض للغرب لا ينفي مسؤوليتنا عن شرح ذواتنا ومعرفة الحقيقة وتوصيلها، لأنفسنا أولاً ومن ثم للآخر. ويعرِّف حسن حنفي هذا العلم بأنه «الوجه الآخر والمقابل بل والنقيض من الاستشراق، فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب)، يهدف علم الاستغراب إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر». وهناك الكثير من الخطوات التي لا بد من القيام بها لتأسيس هذا العلم على أسس راسخة، من بينها المراجعة الشاملة لموقفنا من الآخر والاعتراف بالتطور التاريخي الذي حدث على مدى قرون كثيرة بحيث يتغير المنظور الذي نستخدمه في إدراك ذواتنا، وهو ما يقتضي منا تجديد الخطاب الديني والفكري على نحو معاصر كفيل بأن يجعل من سلوكنا نموذجاً عصرياً يعبر عن قيم الدين والحضارة بعيداً من القوالب الجامدة. ولا شك في أن التحديات أمام عملية التجديد هذه كثيرة وصعبة، لأن التجديد في ذاته هو علم ذو أصول، غير أن قصرَه على رجال الدين فيه ظلم للحضارة الإسلامية التي لم تؤسس فقط على جهد الفقهاء، بل شارك في بنائها الأطباء والمهندسون وعلماء الفلك والكيمياء وغيرهم. بداية التجديد إذن أن يكون شاملاً لمناحي الحياة بحيث يتحرر أبناء هذه الحضارة من قيود التخلف المادي الذي يجعل مساهمتهم الحضارية مهما كانت قيمتها محل شك ومراجعة. والواقع يقتضي أن نعترف لذواتنا أولاً بأننا لسنا في وضع حضاري متميز، لا سيما مع تزايد التحديات التي تحيط بنا على مستويات عدة والتي تؤثر بدورها في صورتنا ودورنا الإنساني، وبالتأكيد فإنه لا طائل من الاستمرار في الاعتماد على منجزات أسلافنا، والتي أصبحت بحكم التسلسل الحضاري جزءاً من منجزات الحضارة العالمية بأسرها، بحيث يستحيل فرزها واجتزاؤها، فالثابت أن حضارتنا أسهمت في النهضة الأوروبية وفي التطور الإنساني عموماً، وهو ما اعترف به الكثير من المستشرقين، غير أن اختزال الدور الحضاري للمسلمين في هذه المساهمة هو إقرار منا بأننا لا نزال نعيش في الماضي. ومن المهم عند تأسيس هذا العلم الاهتمام بالجسور الحضارية مع الغرب، ولا شك في أن المسلمين الذين يعيشون هناك، هم أهم هذه الجسور وأقواها تأثيراً، ذلك أن سلوكهم يعبر عن حال من التواصل الدائم مع الغرب، من دون الحاجة إلى ترجمة كتب أو عقد ندوات، فالطبيعة العملية للإنسان المنتمي إلى الحضارة الغربية تجعله يصدق دائماً ما يلمسه ويراه بعينه. ومن هنا كانت المسؤولية عظيمة، فكثير من سلوكيات المسلمين في الغرب تأتي متأثرة بمجموعة من الأفكار التي عف عليها الزمن، فالدين ليس مجرد مظاهر، وإنما قيم وروحانيات قابلة للتشكل بحسب المتغيرات من دون أن تفقد من أصولها الصافية شيئاً. طبيعي إذاً أن تسفر أحوال المسلمين في الغرب (الفكرية والثقافية والاجتماعية والسلوكية)، بالإضافة إلى الصورة المسبقة المرسومة لهم هناك، عن عدد من النتائج أبرزها صعوبة اندماجهم في مجتمعاتهم في شكل يجعلهم جزءاً من عملية صناعة القرار المجتمعية، وفي هذا يقول فريدون هويدا في مؤلفه «الإسلام معطلاً»، «إذا تفاهم المهاجرون في بلد ما مع أهل البلد فإن عملية الإندماج تحدث بسهولة أما إذا تشددوا في التمسك بعاداتهم على رغم تعارضها مع قوانين البلد المضيف، فلا مفر عندئذ من المواجهة». ويحدد حسن حنفي مهمة علم الاستغراب بأنها «إعادة التوازن للثقافة الإنسانية بدل هذه الكفة الراجحة للوعي الأوروبي والكفة المرجوحة للوعي اللا أوروبي. وأخيراً يهدف هذا العلم إلى إنهاء أسطورة كون الغرب ممثلاً للإنسانية جمعاء وأوروبا مركز الثقل فيه». أما النتائج التي ستترتب على تأسيس هذا العلم، فأهمها عند حنفي، هي «رد الغرب إلى حدوده الطبيعية وإنهاء الغزو الثقافي، القضاء على أسطورة الثقافة العالمية واكتشاف خصوصيات الشعوب، إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية وتحريرها من الغطاء الذهني، القضاء على عقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة إلى الغرب». أخيراً، يمكن القول إن موقفنا من حركة الاستشراق هو موقف رد الفعل، وإذا كان لنا أن نتحاور مع الغرب ثقافياً فلابد من تأسيس ما يخصنا في الحوار، أي حركة الاستغراب التي عليها أن تسارع إلى درس الحضارة الغربية في شكلها الحالي، والتعامل مع معطيات الحاضر ومحاولة فهم الأسس القيمية التي تستند إليها هذه الحضارة. وإذا نجحنا في التأسيس الصحيح لعلم الاستغراب فسيعود إلينا الأمل في صحوة حضارية وفعل إيجابي.