يعيش الفنان يوسف ليمود متنقلاً بين مصر وسويسرا منذ بداية التسعينات، وربما أتاح له هذا الحضور المتقطع، أو هذا الغياب الذي يشبه الحضور نظرة أعمق للمشهد وقراءة مختلفة لمسارات التغيّر الذي طرأ على هيئة المدينة. هذه المدينة المهولة التي يلقي بنفسه في خضم صخبها، في كل مرة يعود إليها، والتي حاول أخيراً مراقبة ألمها وتشوهها عبر صور فوتوغرافية، نشرها في صفحته على الفايسبوك. وإنّ أكثر ما يلفت الانتباه في تلك الصور هو ذلك الهدوء المخيم، الصمت الذي يلف مدينة متعددة الأوجه لا تكف عن الحركة. المدينة التي ثارت على خضوعها، وملأت الدنيا هتافاً وتحدياً، ها هي الآن تلوذ بالصمت. شعور الإحباط، انكسار الحلم، الرؤية المشوشة للواقع، مشاعر نستطيع أن نقرأ تجلياتها بين ظلال هذه الصور بمقدار ما نرى بين أطلال هذه الخرائب الخشبية التي صاغها ليمود في عمل فني عنوانه «مقام الزوال». إنه تجهيز في الفراغ عرضه في مركز الجزيرة للفنون في القاهرة، ثم أعيد عرضه في قصر الفنون في دار الأوبرا المصرية ضمن برنامج المعرض لهذا العام. في «مقام الزوال»، يطرح ليمود معاييره الجمالية في مواجهة هذه العشوائية العبثية التي تحيط بنا. يعرض الأمر في شكل مباشر، من دون تلطيف أو تهذيب، كاشفاً ما نحاول إخفاءه. استخدم الفنان قطعاً من الأخشاب المهملة، مشكلاً بها ما يشبه البيوت أو أنقاضها. بيوت تحوي أطلالاً لبشر وجمادات. لا شيء سوى هذا الخواء المسيطر على المشهد، وهذا الصمت الطاغي ينبش في المخيلة، ويبحث عن مرادفات له وأشباه في واقعنا العبثي. مئات القطع الخشبية الصغيرة وشرائح الورق المقوى، مفردات مهملة، لم يراع تهذيبها، تشكل قوام العمل. ركام غير ثابت يؤدي ايضاً دوره في العرض، ثم يعود مرة أخرى ركاماً كما جاء. فالأمر لا يحتمل تلك الصياغات البراقة المكلفة، والعمل الفني لا يصنع من أجل أن يخزن داخل حجرات المتاحف. الصدق في تناول الطرح هو وحده الكفيل بإضفاء البريق على العمل، والنجاح في التعبير عنه هو القيمة الحقيقية. هو أيضاً لم يبذل جهداً في جمع أو تثبيت هذه القطع الخشبية أو صونها من العبث والتداعي. يجمع القطع الخشبية وغيرها جنباً إلى جنب ليصنع الشكل أو الهيكل حتى يكتمل ذلك التكوين النهائي المشكّل من عشرات الهياكل والأشكال الخشبية. شىء من التحكم في الإضاءة كان في مقدوره أن يضفي بعداً آخر على المشهد. راوحت التكوينات بين الصغير والكبير الذي يشغل حيزاً لا بأس به من مساحة القاعة، بينما غطيت الأرضية بالرمال. بدت المساحات المرسومة أشبه بخريطة ما لمدينة أو صحراء قاحلة، أو كأنها مشهد من أعلى لتلك التشكيلات الهيكلية التي تركها ليمود وراءه منهكة في مواجهة الصمت والزوال. يوسف ليمود، فنان تشكيلي وكاتب من مواليد القاهرة 1964، يعمل ويعيش بين مدينتي القاهرة وبازل. تخرج في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، قسم التصوير سنة 1987، ودرس عاماً في أكاديمية الفن في «دوسلدورف» (ألمانيا) 1991، وأقام عدداً من المعارض الفردية في مصر وخارجها، وشارك في معارض جماعية محلياً وعالمياً. يكتب عن الفن في عدد من الدوريات والصحف العربية. وفي النقد الفني، صدر له عن المجلس الأعلى المصري للثقافة، بحثان: أولهما عن الفن المصري في الستينات والسبعينات، والآخر عن الفنان رمسيس يونان. وله في المجال نفسه كتاب قيد الطبع عنوانه «ذاكرة متحف ومدينة» يتناول فيه المنظر الفني في مدينة بازل السويسرية من خلال المعارض المتحفية للفنانين العالميين.اضافة الى سلسلة أبحاث عن الجسد في الفن المعاصر نشرت في مجلة «جسد» اللبنانية. أما في الأدب، فصدرت له ترجمة لديوان شعر عن الألمانية «من العيون في العيون» للشاعر التشيكي يوزيف هروبي، ومجموعة نثرية عنوانها «مقاطع في حيز العابر».