في رواية «صنعائي» للكاتبة اليمنية نادية الكوكباني (دار الحوار، 2015)، تتماهى حكاية البطلة صبحية، الفنانة التشكيلية، مع حكاية المدينة/ الوطن: «أنا صنعاء وصنعائي أنا». يبدأ السرد من اللحظة التي تنزل فيها أسرة صبحية في مطار صنعاء، مصطحبة جثمان والدها الذي أسلم الروح في القاهرة في العام 2000، بعد غياب عنها دام ثلاثين عاماً، كان يعيش فيها على الذاكرة والحنين، ويضمر أسرار خيبته وخيبة وطنه بعد أحداث أغسطس الدامية في عام 1968، حيث تم الانقلاب على الثورة ووصل الانتهازيون إلى سدة الحكم ليجنوا ثمن دماء الشعب والثوار الذين دافعوا عن صنعاء وحلموا بالوصول باليمن إلى دولة مدنية حديثة. صبحية ابنة مناضل من أولئك الثوار، أُدخل السجن بسبب نظام استولى على الحكم، ثم غادر اليمن إلى القاهرة. كان يحكي لابنته صبحية عن ذلك اليمن وتلك المدينة التي تعيش في خلده كالأساطير. ارتسم الوطن في خيال صبحية - الفتاة التي نشأت على وقع الغياب - من خلال زياراتها المتكررة في إجازات مع والدتها وأخيها، ومن خلال حكايات «حليمة»، جدتها لأمها، و»مسرة» جدتها الأثيوبية لأبيها. فاكتسب الوطن سطوة السحر مسروقاً من سحر الحكايات، وبقي السؤال يضج في خلدها ويكبر معها: «لماذا اختار أبي أن نعيش ونكبر بعيداً عن الوطن؟». فتبدأ رحلة البحث عن صنعاء واكتشافها بعدما استقروا فيها إثر عودتهم، لتعيش قصة حب مع رجل داهمها بسطوة آسرة في مرسمها الذي اختارته في قلب صنعاء القديمة، «حميد». كان هذا في العام 2009، وما لهذا التاريخ من مؤشر على إرهاصات الثورة اليمنية التي دفعت إلى مهاوٍ ترديها وتفجرها حرباً تقضي على ما تبقى من وطن ومجتمع وحلم ثار الشعب لأجله. حصار صنعاء تحاول الكاتبة استدعاء الماضي، من الفترة التي تلت أحداث 1948 ونهاية حكم الأئمة في اليمن، ثم الثورة على النظام، مركزة على حصار صنعاء الذي دام سبعين يوماً في العام 1968، جرى فيها تجنيد القبائل في الحرب على النظام الجمهوري ومحاصرة صنعاء، وبعدها الهزيمة الكبرى بسبب الفتنة واعتلاء الانتهازيين سدة الحكم دافعين بمن قاموا بالثورة إلى المنفى أو السجن أو بتصفيتهم الجسدية، لتبدأ الانحرافات عن مبادئ الثورة وأهدافها، وإشاعة الفوضى والفساد في أجهزة الدولة ومؤسساتها والحكم بالقوة والبطش. وبهدف معرفة الأسباب التي أوصلت اليمن إلى ما هو عليه، تلجأ نادية الكوكباني إلى توزيع رسم المشهد على أبطال قصتها، مستخدمة تقنية السرد متعدد الأصوات. لكلّ شخصية دورها في الحكاية، ومقولتها ورأيها حول مآل الثورة بعد الحصار وحتى الآن. شخصيات الرواية محبطة بشكل عام، سلبية انهزامية، تدينهم البطلة التي تماهت مع الوطن وحملت رمزه «صبحية»، فوالدها آثر الهروب على المواجهة مكتفياً بالعيش على الحنين وكتم السرّ في داخله، وحميد الذي ارتبط في وجدانها بالوطن المرتجى والذي معه أعادت اكتشاف صنعاء وتخليدها في مرسمها، هو ابن أحد الثوار الذين قضوا في الدفاع عن صنعاء، وضابط الشرطة الذي آثر الاستقالة والهروب على مواجهة الفساد والانحراف في السلطة. ودغمان ابن أحد الثوار الذي يتحدر من تعز، قضى والده أيضاً في الدفاع عن صنعاء، وعاش يتيماً بعدما تزوجت أمه من رجل آخر وتركته مع أخيه يواجهان مصيرهما، اشتغل في السلك الديبلوماسي بعد عودته من منحة دراسة لكونه ابن شهيد من الثوار، كرّمه بها رئيس الدولة الذي اغتيل بعدما أظهر من نية وعمل على بناء اليمن الحديث، ابراهيم حمدي (اعتلى الحكم في عام 1974 واغتيل في عام 1978)، وهو الذي قال لا للقبيلة التي تنهب الشعب. وبعدها تغيرت صنعاء «تناسل مشايخها، واستقوت قبائلها بنظام جديد وسلة تمنحهم الأرض والبشر معاً»، ثم تحول «دغمان»، بعد عودته من القاهرة الى صنعاء، إلى مخبر وتاجر سلاح ثري يستفيد من منصبه ومن فساد النظام. أما الصوت الأخير فهو صوت «حوريتي مسك»، المرأة التي أحبها حميد خارج نطاق الزوجية، كانت تربطهما علاقة حب ترفعها الرغبة بلا حدود إلى آفاق بلا حدود. أما الأوراق التي تركها والدها، والرسالة التي خصها بها، فتأتي لتختتم المشهد، بعد أن يكشف سر الرجل الغامض الذي لفتها منظره في مقبرة «خزيمة» أثناء مواراة جثمان والدها، «العم عبده سعيد»، الذي شهد الثورة وكان من قوات الصاعقة والمظلات، قبل أن ينتقل إلى شخص مفصول عن الواقع ينام بين القبور، يحرس رفات رفاق النضال، وينتهي إلى مصير غامض. توثيق المكان ترسم الكاتبة صنعاء مثل لوحة بانورامية مشغولة من قطع الفسيفساء الصغيرة الملونة، بتفاصيلها الصغيرة والشاملة، بلغة سردية جميلة ممهورة بالمفردات المحلية، توثق صنعاء بتراثها وتاريخها وعمارتها وأزيائها وعادات ناسها وثقافتها الشعبية، وحكاياتها وميثولوجيتها، ومكانة المرأة فيها سابقاً ولاحقاً، والتغيرات التي طرأت على كل مناحي الحياة فيها، وانحدارها نحو التعصب والانغلاق وسيطرة الدين ورجاله على الناس بدلاً من الدين الشعبي الذي كان ناظماً لحياة الناس الروحية، هذا ما يجذب القارئ ويمنحه المتعة في النصف الأول من العمل، لكنّ النصف الثاني يسيطر عليه السرد التوثيقي، فيبدو كما لو أن صفحاته مقتطعة من كتب التاريخ، فتلجأ الكاتبة إلى تبرير ذلك على لسان الراوي، كحين يقول دغمان: «لا تستغربي من معلوماتي «صبحية» كنت وما زلت عاشقاً لكتب التاريخ». فما الذي حدث في التاريخ الحديث؟ وكيف وصلت اليمن إلى ما هي عليه؟ تتوزع الإجابات على ألسنة الرواة، فالعم عبده سعيد يقول: مات عبد الناصر وماتت معه القومية. ومات رفاق السلاح لأنهم شيوعيون، تحول مسار الجمهورية بعيداً عن أحلام التحرر والانفتاح، منغمساً في مرتبات المناطقية الضيقة والقبلية المتخلفة، وتدريجاً استبدلت الشعارات الحياتية بالخطب العقائدية، وأسماء الشوارع بالأرقام ليموت التاريخ في امتدادها وتتشرد الحقيقة قبل نقطة الوصول. وفي النتيجة، ثمة من بذل دمه وروحه لأجل حلم الشعب، مدافعاً بإخلاص وتفانٍ عن حقوقه، لكنّ انحراف الثورة ولصوصها غدروا بهم مثلما حصل للنقيب عبد الرقيب عبدالوهاب، ابن عدن الذي التحق بالثوار ليدافع عن الثورة وقيام الجمهورية، فاغتيل بعدما وصل إلى رئاسة الأركان في عام 1968، هو الذي أجمع الناس على محبته، وقد أهدته الكاتبة عملها هذا.