ليست الفيدرالية خياراً شنيعاً في إدارة الدول والأمم المعاصرة، فهي تسود في بلدان ناجحة وقوية شأن الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وأستراليا والبرازيل وروسيا الاتحادية وألمانيا وبريطانيا... إلخ، بل يمكن القول إنها تزيد بعض الدول قوة وتألقاً، لأنها تحرر السلطة المركزية من أعباء محلية كثيرة وتحملها على حصر القسم الأعظم من جهودها في مجال الدفاع والسياسة الخارجية والتخطيط الشامل.ويمكن للفيدرالية أيضاً أن تثير التنافس بين المتحدات المختلفة في بلد ما، والتنافس يغني البلد ويسهم في تطوير مكوناته على كل صعيد، كما أنها تؤدي إلى تكامل في الوظائف وإلى تمتين الوحدة الوطنية داخل بلد ما، لأن الحاجات المتبادلة بين الفيدراليات تشعر الجميع بوجوب الحفاظ على الشراكة القوية وعلى حمايتها من العناصر التي تتسبب في وهنها أو ضعفها. تبقى الإشارة إلى أن التعدد في الإطار الواحد هو مصدر غنى وحيوية لجميع عناصره. وبخلاف الاعتقاد السائد ليست الفيدرالية مصدر ضعف للدولة المركزية ولا لحكوماتها، فالأكثرية الساحقة من البلدان القوية في العالم تعتمد النظام الفيدرالي، كما قلنا. والقوة الأعظم في العالم فيدرالية، بينما الدول الاندماجية ليست الأهم في مجلس الأمن ومنظومة الأممالمتحدة إذا ما استثنينا فرنسا وقبضة من الدول المشابهة لا تتعدى أصابع اليد، علماً أن باريس اعتمدت وتعتمد منذ عقود مخططاً تدريجياً نحو اللامركزية التي قد لا تصل إلى حد الفيدرالية لكنها تندرج في سياقها. وعلى الرغم من نجاحها في الدول المذكورة فالفيدرالية ليست عنواناً للنجاح في كل مكان، بل ربما تسببت بفشل بلدان كان يمكن أن تنجح استناداً إلى نظام مختلف، كما هي حال تشيكوسلوفاكيا التي سارع أهلها إلى تدمير نظامهم وعادوا إلى الانفصال بعد نهاية الحرب الباردة، وليست الفيدرالية ناجحة تماماً في بلجيكا التي كادت تنفجر في أكثر من مناسبة وما زال نظامها مهدداً بالفشل.يملي ما ورد نتيجة أساسية مفادها أن النظام الفيدرالي كغيره من الأنظمة السياسية يعتمد أولاً وأخيراً على نوايا وخطط ومبررات الذين يختارونه، فإذا كان المعنيون يحملون مشروعاً لأمة ناهضة، فمن البديهي أن تكون الفيدرالية وسيلة لنجاحهم، وإن كانوا يحملون مشروعاً تقسيمياً فمن البديهي أيضاً أن تكون الفيدرالية وسيلة لطلب المزيد من التقسيم والتفتيت، ما يعني أن الأصل في هذه المسألة هو حال الناس وليس شكل الأنظمة. أعبر من هذا المدخل لمقاربة المشروع الفيدرالي الذي طرحه إقليم برقة في ليبيا التي تخلصت لتوها من نظام العقيد الراحل معمر القذافي، فقد أعلن أهالي هذا الإقليم الفيدرالية من طرف واحد وانتخبوا عضواً سابقاً في الأسرة الملكية السنوسية رئيساً للإقليم، بيد أن فيدراليتهم أثارت وما زالت تثير ردود الفعل الغاضبة من طرف الليبيين في الأقاليم الأخرى التي تدعو إلى الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية. وفي اليمن يطرح البعض الفيدرالية مخرجاً لإصرار فريق على الوحدة الاندماجية وتمسك فريق آخر بخيار الانفصال، وعلى الرغم من أن اليمنيين ما وصلوا بعد إلى درجة الانشقاق الليبية، فإن البعض يعتقد أن الحراك الجنوبي لن يهدأ ما لم يحصل أصحابه على النظام الفيدرالي في أسوأ الاحتمالات. والواضح أن اليمنيين والليبيين الانفصاليين والفيدراليين يستندون في تبرير الفيدرالية أو الانفصال أو فك الارتباط، إلى مطالب فئوية، إذ يتحدثون عن تمتع مناطقهم بالقسم الأكبر من الثروة والقسم الأكبر من الحرمان والإهمال، وعن أن ماضيهم كان أفضل من حاضرهم وبالتالي يفضلون الماضي على الحاضر وهم يعدون مواطنيهم بمستقبل شبيه بموناكو ولشنشتاين، حيث قلة من البشر تتمتع بثروة طافحة. ولا تعبأ هذه الفئة من الليبيين واليمنيين بمصير ما تبقى من الشعب اليمني والليبي، باعتبار أن الأمر ليس في يدها وأنها تريد النجاة بأية وسيلة من مركب آيل إلى الغرق، وبأن على بقية ركابه أن يجترحوا الوسائل التي تتيح لهم الوصول إلى قوارب النجاة. يبدو جلياً أن الفيدرالية الليبية، كما نظيرتها اليمنية المحتملة، ليست خياراً لشعب بأسره وإنما سلاح تشهره أقلية من هذا الشعب بمواجهة أكثرية ترى وجوب الحفاظ على الاندماج الوطني. والبادي أيضاً أن هذا الخيار يستعرض في بلدين عربيين لا إثنيات فيهما ولا طوائف دينية متنازعة، وتسودهما ثقافة واحدة ويتحدث أهلهما لغة واحدة، ويرتبطون بتاريخ مشترك ومستقبل مشترك، ويمكن لبعض المشكلات أن تحل بوساطة اللامركزية الإدارية الواسعة والمجالس المحلية من دون الوصول إلى عتبة الفيدرالية أو الكونفيدرالية. بكلام آخر نقول إن الفيدرالية الليبية واليمنية تختلف عن الفيدراليات الغربية والروسية والبرازيلية باعتبارها جواباً لمشكلة محلية وليست وسيلة لتدعيم الدولة المركزية وإنما لإضعافها، ويمكن في حال رفضها أن تكون سبباً في نزاع أهلي يطيح البلاد بدلاً من إنقاذها وحل مشكلاتها. ما من شك في أن الخلاف بين اليمنيين والتيار الانفصالي ليس خلافاً إدارياً حتى يحل بالفيدرالية، والحال نفسه بين أهالي برقة وبقية الليبيين، ما يعني أن الأمر يتطلب حلولاً من طبيعة مختلفة تقوم على المواطنة المتساوية والعدالة المتساوية وفرص التنمية المتساوية أمام الجميع دون تمييز جهوي أو قبلي أو أيديولوجي.. إلخ، وما يعني أيضاً أن الانفصاليين يتنكرون بالفيدرالية من أجل الافتراق، وليس من أجل تمتين الوحدة الوطنية كما يفترض الخيار الفيدرالي.