أما قبل، فذلك هو الشاعر المبدع عايض الظفيري.. أما بعد: ففي بداية النص كانت هناك إشارة تململ، وضيق من الحالة السائدة، التي انعكست سلبا على الشاعر حتى ضاق بنفسه، ودخل في صراع غير متكافئ معها، عبر: ثنيتها لين صارت غصب تثنيني، والثني هنا، لا يعني الهزيمة فقط، لكنه يأخذ كل دلالات الانكسار، والإحباط. كل ذلك لأن الشاعر: يعيش لا هو بلا راضي ولا مكره أحلام وأوهام تغريني وتغويني والجميل هنا، ليس فقط المحسن البديعي المتمثل في السجع، في: أحلام / أوهام، أو الجناس في: تغريني / تغويني، لكنه يكمن أيضا في هذه التراتبية الجميلة فالأحلام تحولت إلى أوهام، والإغراء تبعه الإغواء، ليظل الشاعر معلقا في دائرة ضيقة من الإحباط، ويراهن على الزمن الذي أخذ شكل المكان ويردد: هالليل درب سهرته وآخره بكرة.. وقبل أن نسترسل في قراءة النص سنتوقف قليلا عند صراع الشاعر مع الزمن في هذه القصيدة، التي كتبت أصلا عن زمن جميل للشاعر، ولأن الزمان لم يعد كذلك فإن الشاعر حاول أن يحيده وأن يلجأ للمكان الذي لا تتغير دلالاته مهما تغير شكله.. من أوجه صراع الشاعر مع الزمن، تحويل الليل كما قلنا من مدلوله الزمن إلى (درب) بمفهومه المكاني، لكن هذا الدرب سيصل في النهاية إلى (بكرة) والمشكلة أن (بكره) هو أساس المشكلة لأنه سيبعده عن الامس.... وهذا بُعد فلسفي جميل الى ابعد الحدود. هذا ال(بكره) الذي سينتهي اليه درب الليل، هل يستطيع أن يقوم بعملية انقلابية معاكسة لإتجاه الزمن، و: يَقدر يرجع ظلآمي مثل مآ يخبره؟ قبل صلآة العشآء وأمِّي تنآديني هنا أيضا يحضر الزمن، لكنه زمن الامس.. زمن الحلم. يآ وليدي الليل ليّل غآبت الصفره وبما أنها غابت الصفرة، فالمؤكد أن الليل ليّل، وبلغ سقفه الزمني الاعلى المسموح. طفل كبير يتشيطن حزّة السهره والصبح مآ كآن ذآك الوقت يعنيني هنا أيضا ملمح من صراع الشاعر مع الزمن، فالصبح لا يعني له سوى العودة لما كان عليه قبل أن(يليل الليل): مآكآن هَ الصبح يغريني وآبنتظره إلآ علشآن لعبي مع حبيبيني ثم يبلغ الصراع بين الشاعر والزمن مداه: مآكنت آحسب الزمَن قآسي على كثره كنت آحسب إنه إلى آحلآمي / يوديني هَ اللحين | يآخيبتي عشره على عشره هَ اللحين يآ نَفس.. لوميني ولوميني سنخرج من منعطف الزمن الذي دخلناه اضطرارا، ونعود للقصيدة في بنائها الاساسي ومن حيث توقفنا: هالليل درب سهرته وآخره بكره بكره خذآ الأمس مني وش ب يعطيني؟ قلنا أنها مراهنة على الزمن، لكن حتى هذه المراهنة، لا تختلف في نتيجتها، عن الأحلام المتحولة إلى أوهام، والإغواء الناتج عن الإغراء، فالمأزق لا يزال أكبر من أن يتم تجاوزه، لأن هذا ال بكره يبعد الشاعر عن الأمس الذي هو مصدر طمأنينته ومحضن عشه الدافئ: هَ الليل درب سهرته وآخره بكره بكره خذآ الأمس مني وش ب يعطيني؟ يَقدر يرجع ظلآمي مثل مآ يخبره؟ قبل صلآة العشآء وأمِّي تنآديني: يآ وليدي الليل ليّل غآبت الصفره تعآل واِمرح اوخيّك بينك وبيني أيَّآم كنت أسأل أمي: ليلنا ش كبره؟ آنآم وآسمَع: وليدي.. يآ بَعَد عيني هَ الكون مآ هزّ في رآسي ولآ شعره مآ هزّني - غير - صوت أمِّي تصحيني هذا الحشد العاطفي / الشفيف، نستطيع أن نقول أنه لا يحمل أي جديد على مستوى الفكرة، فالحنين للماضي، وتذكر تفاصيله الصغيرة، ثقافة شائعة لدى الشاعر العربي العاطفي بتكوينه النفسي، والوفي للماضي دائما، هذا الحنين الذي عرفناه من خلال الأطلال التي كان الشاعر الجاهلي لابد أن يقف عليها في بداية كل قصيدة، واستمرارية ذلك بأشكال وتوظيفات مختلفة، عبر الأزمنة الشعرية المتتالية، حتى بزوغ عصر الشعر الشعبي المليء بمثل هذه التو جدات منذ بواكيره وحتى ألان.. أقول الفكرة بحد ذاتها ليست جديدة، لكن المعول عليه، هو طريقة التناول، والمعالجة، فالشاعر الذي يطرق هذا المجال، لا يتحدث عن نفسه، أو ماضيه، مهما كانت التفاصيل، لكنه يتحدث بلسان الجميع، وينقل مشاعرهم الجياشة، وحنينهم المفرط لذلك الزمن الفارط، الذي يظل جميلا في الذاكرة، حتى لو كان غير ذلك في الواقع، ولأن المعول عليه، كما قلنا هو طريقة المعالجة والتناول الشعري، فإنني أقول بكل تجرد أن عايض الظفيري عندما طرق هذا الغرض جعلني كمتلقي أشعر بأنه لم يسبقه إليه أحد، وأنه أخذني بيدي في هجرة زمنية لأيام البساطة وحضن إلام الدافئ، وصوتها المشبع بالحب والأمومة، وهي تنادي وتسوق الحجة لإقناع صغيرها بالانضواء تحت جناحي العطف والرحمة في قلبها: يا وليدي الليل ليل غابت الصفرة ! هذه الجملة بما تحمله من خصوصية زمنية، لم تعد موجودة، يبدو أنها تسكن -- أعني الخصوصية الزمنية والمكانية – يبدو أنها أصبحت تسكن في أعماق عايض عندما لم يعد يسكنها، ففي قصيدة أخرى له يتحدث عن هذا الواقع الذي كان هو كل العالم بالنسبة له: بيوت الطين يكسيها الظلام نحاس ليا غاب الشفق قامت تبدالي سقايفها خشب وعروقها يبّاس جريد من النّخل.. دوم النخل عالي تشكّل هالنجوم عقود من ألماس تدانى كنّها تسأل عن أحوالي ليالي صيف وانفاس الهوى نسناس يزاورنا القمر كنّ القمر خالي يدور البن والموقد غشاه نعاس سوالفنا تجي مثل الرّطب حالي مع هذه الأجواء العابقة برائحة الأزمنة الجميلة، نعود للقصيدة مدار الحديث الشعري هنا، فعن هذه الأجواء، وعن هذه الألفة، عن حدود تفكيره وأبعاد رؤاه بشكل عام، يحدثنا عايض قائلا: كنت آحسب الوَقت لآيظلم ولآ يكره كنت آحسبني آبَكبر بَس ب سنيني طفل كبير يتشيطن حزّة السهره و الصبح مآ كآن ذآك الوقت يعنيني مآكآن هَ الصبح يغريني وآبنتظره إلآ علشآن لعبي مع حبيبيني مآكنت آحسب الزمَن قآسي على كثره كنت آحسب إنه إلى آحلآمي / يوديني هذا هو المفترض، أو المتخيل على أقل تقدير، لكن الواقع: هَ اللحين يآخيبتي عشره على عشره هَ اللحين يآ نَفس.. لوميني ولوميني عشته وشفته يآ صعبه ويآ قشره مآفيه شي قدَر حتى يسلّيني وش آخر الصبر يانفس نفذ صبره ثنيتهآ.. والزمن لآبد.. يثنيني وأي كان مصدر هذه الخيبة، أو الخيبات، التي لابد أن تكون قاسم مشترك للكثيرين، الحالمين بغد أفضل، وبمجتمع أفضل، فأن الأكيد أن هذا ال عايض الظفيري، يعتبر انتصار حقيقي للشعر في أجمل وأبهى صوره، وبالنسبة لي كشاعر وكمتلقي أجد في قصائد عايض الظفيري ملاذ آمن كلما ازدحمت سماء الشعر يردئ الكلام.. وكلما فقدت إيماني، أو كِدت أن افقده بالشعر، أعاده لي عايض بقصيدة واحدة..