لم يكن قرار الحكومة الإسرائيلية بالإفراج عن أموال السلطة الفلسطينية مفاجئاً، وإنما يندرج في سياق السياسية الإستراتيجية السياسية لإسرائيل المتبعة منذ سنوات، والتي تضمن المستويات العليا استمرارها، خاصة الجهات الأمنية المختلفة. فقرار إسرائيل بتجميد تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية عقب حصول الأخيرة على عضوية منظمة اليونسكو كان قراراً مؤقتاً ومشروطاً. فالحكومة الإسرائيلية حددت منذ البداية أن قرار تحويل الأموال سيبقى مؤقتاً، وأن إسرائيل ستدرسه باستمرار كل بضعة أيام، ونتنياهو كان بذلك يريد أن يبقي الباب موارباً أمام تراجعه عن هذا القرار؛ لعلمه بتداعياته وصعوبة إنفاذه.كما أن القرار بوقف تحويل الأموال افتقد منذ البداية للإجماع داخل الحكومة الإسرائيلية؛ فقد عارض وزير الدفاع أيهود باراك – وهو مقرب جداً من نتنياهو- القرار، وأبدى باراك خشيته حينها من أن يؤثر وقف تحويل الأموال على قدرة السلطة على دفع رواتب موظفي الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية، مما يلقي بأعباء كبيرة على الجيش الإسرائيلي هو في غنى عنها، خاصة وهو يعلن أنه يتحضر لحرب ربما تكون شاملة. ومعروف أن إحدى أسباب إخفاقات الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان – حسب لجان التحقيق الإسرائيلية- هو انشغاله في حرب مدن ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة. ولم يكن باراك الوحيد في رفض قرار وقف تحويل الأموال، بل شاركه في ذلك قادة الأجهزة الأمنية المختلفة. وأكثر من ذلك أن شاؤول موفاز وهو من أقطاب المعارضين لنتنياهو أعلن صراحة أن على نتنياهو أن "يتخذ قرار جريئاً بإعادة تحويل الأموال وعدم الاستماع إلى المتطرفين في حكومته"، ومع الإشارة إلى أن موفاز هو رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، يتضح حضور العامل الأمني في قرار استئناف تحويل الأموال.كما أن المعارضة داخل الحكومة الإسرائيلية لقرار إعادة الأموال كانت معارضة مفككة، وأن ليبرمان الذي تزعم المعارضة كانت أهدافه وراء ذلك حزبية صرفة، لسعيه بالظهور وكأنه الرجل الحقيقي لليمين الإسرائيلي، وتصريحه الأخير الذي قال فيه "أنه سيفعل كل شيء لمنع تحويل الأموال للسلطة"، أتبع هذا الكلام بالتأكيد بأنه لن " يثير أزمة ائتلافية" إذا تم تحويل الأموال، ويفهم ضمناً من ذلك أن ليبرمان يفتح الباب أمام نتنياهو لإعادة تحويل الأموال، دون أن يحسب ذلك على ليبرمان بأنه وافق على القرار. وتسود تقديرات في الأوساط الإسرائيلية المختلفة أن السلطة الفلسطينية لا تريد الوصول إلى حالة الاحتكاك المباشر مع إسرائيل، وأن السلطة تلجأ لبعض الخطوات الرمزية من أجل إنعاش شعبيتها التي تدهورت مع انعدام المكاسب السياسية من مشروعها التفاوضي، لأجل ذلك لا تريد إسرائيل الذهاب بعيداً في ردها على السلطة بعد حصولها على عضوية اليونسكو أو حتى تطبيق اتفاق المصالحة مع حماس. وفي هذا السياق جاءت تصريحات أكثر من مسئول إسرائيلي من بينهم نتنياهو بأن اتفاق المصالحة هو "خطوة تكتيكية من أبي مازن"، وأن اتفاق المصالحة بالنسبة لإسرائيل ليس أكثر من "حبر على روق".وإن كانت إحدى مبررات قرار وقف الأموال هو اعتبار إسرائيل لحصول السلطة على عضوية اليونسكو "بالخطوة الأحادية" فإن الحديث في الإعلام الإسرائيلي تواتر في الفترة الأخيرة عن أن السلطة قد أوقفت مثل هذه الخطوات في المحافل الدولية. كما أن إسرائيل ردت على هذه الخطوة في أكثر من جهة، أهمها تسريع بناء المستوطنات في القدسالشرقيةالمحتلة.وكان محدد متخذ القرار الإسرائيلي في قرار وقف تحويل الأموال هو الضغط على السلطة لكن مع ضمان عدم انهيارها. ولا يجب إغفال حضور العامل الاقتصادي في هذا القرار، وهو ليس نابعاً من وقف تصدير المنتجات الفلسطينية لإسرائيل لأن ذلك لا يمثل أكثر من 1% مما تستورده إسرائيل؛ بل لأن وقف تحويل الأموال إلى السلطة قد يعني في احد السيناريوهات الواقعية هو انهيار المنظومة الأمنية الفلسطينية في الضفة، وعودة العلميات ضد الأهداف الإسرائيلية، وهو ما كبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر فادحة أدت إلى تراجع نموه في سنوات ذروة انتفاضة الأقصى.