صحيح أن الثورات العربية التي تجري أطوارها في العديد من الدول بالوطن العربي، قد أبانت عن مجموعة من الاختلالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تفيد في العمق مدى عمق أزمة الشرعية السياسية للنظم الحاكمة بهذه الدول، التي هي في الأصل نظم حكم أرستقراطية أو عسكرية أو عشائرية. هذه النظم ورثتها الشعوب العربية عن الاستعمار الغربي زمن تغييب الإرادة الشعبية لهذه الشعوب المقهورة والتي من بعد تم إخضاعها من طرف بني جلدتها بدعم غربي. قوى الاستبداد السياسي وشخصنة الدولة والسلطة معا، في الحاكم الرمز لتحقيق معادلة الحاكم هو الدولة، والدولة هي الحاكم .هذا الاختزال لإرادة الشعب في شخص الحاكم ولدت لديه رغبة التملك والاستعلاء في زمن حكمه الفعلي للشعب. هذه الأزمة يمكن اختزالها في الأزمة الثقافية التي تعتري حكام الشعوب العربية، زد على ذلك أزمة النخب السياسية غير المكونة؛ هذه النخب السياسية غير المؤهلة في جميع الأحوال لمقارعة النظام الحاكم، وهذا يبدو من خلال البرامج الانتخابية غير المدروسة دراسة علمية؛ والتي هي في الأصل برامج مناسباتية غايتها الظفر بمقعد برلماني يوفر الحصانة لصاحبه فقط. هذه الوضعية خلقت نوعا من التكلس المؤسساتي داخل النظم السياسية، بفعل الاطمئنان الأبدي لكراسي الحكم حتى أصبحت تعاني من تبلد عقلي وجسدي واضح، بفعل الركون إلى الملاهي الخاصة، تاركة بذلك شعوبها ينخرها الفقر والآفات الاجتماعية بشتى أشكالها، الشيء الذي أدى بحكم الواقع إلى تململ الشعوب شيئا ما عن المعتاد بفعل الضغط الممنهج وباستمرار على الإرادة الشعبية. وهو الأمر الذي جعل من هذه الأنظمة لا تدرك أي شيء رغم تبجحها بأنها فهمت شعوبها. إن هذه الأنظمة البليدة بحكم الواقع أخطأت مرة تاريخيا عندما قوضت إرادة الشعوب، ومرة ثانية حينما سمحت لنفسها بالتمادي في خطئها لما جاء فهمها لتحركات الشارع الغاضب بأنه تحرك من أجل رغيف خبز، لكنها أصيبت بالذعر في الوقت الذي أدركت أن سقف المطالب الشعبية لا يمكن أن يكون سوى إسقاط النظام ولا شيء غير إسقاط النظام. هذه النقطة المفصلية من سقف المطالب الشعبية، جعل البعض من الرؤساء، يفكر في الهروب بما حملت يداه. إن الشعوب الشابة للمنطقة هي شعوب لم تأخذ أي شيء، وفي نفس الوقت هي مستعدة بالتضحية بأي شيء، حتى حقها في الحياة استرخصته من أجل أن ينعم الباقون منهم هم، أو أحفادهم بالكرامة والعدل والمساواة والعيش الكريم. إن الشعوب العربية ضاقت ذرعا من أنظمتها المستبدة والتي جعلت منها شعوبا خدومة للرئيس وحاشية الرئيس، في الوقت الذي يجب أن يحدث العكس. إن هذه الشعوب أفقدتها التجربة لممارسة الشأن العام الثقة في المؤسسات الوطنية، وبالأحرى الدولية نظرا لكون هذين الصنفين المختلفين من المؤسسات، لا تحكمهما نفس الهواجس ولا نفس المطامع. فإذا كانت الأولى يسعى أعضاؤها إلى الظفر بعطاءات وإكراميات النظام، فالثانية تحكمها هواجس إستراتيجية واقتصادية؛ أما الشعوب بالنسبة إليها، فإن ضاقت بها اليابسة فالبحر يسعها!! إن هموم الشعوب لا يمكن أن تحس بها إلا الشعوب نفسها، فما أخذ بالقوة يجب أن يسترجع بها، لأن الشعب إذا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.