تعد التحولات الجديدة في السياسة الخارجية الأمريكية هي المحرك الأساسي للتغيير على المسرح الدولي، فقد ورث أوباما تركة ثقيلة للسياسة الخارجية من سلفه جورج بوش الابن، كما أن الولاياتالمتحدة غارقة في حروب لا نهاية لها في الأفق القريب في كل من العراق وأفغانستان، كما مُنيت الجهود الأمريكية بوقف البرنامج النووي الإيراني بالفشل، وأدى عدم الاستقرار السياسي في باكستان إلى التهديد بتحول الأوضاع هناك إلى فوضى كاملة، بل وإلى احتمال انهيار الدولة؛ مما يهدّد بوقوع الأسلحة النووية الباكستانية في الأيدي الخطأ. ويرى حلفاء الولاياتالمتحدة في أوروبا، وبخاصة فرنسا وألمانيا، أن السياسة الخارجية الأمريكية السابقة لجورج بوش هي السبب الرئيس في الكوارث الاقتصادية والسياسية التي تضرب عالمنا اليوم, كما زاد الغزو الروسي لجورجيا الطين بلة، وأُضيفت مشكلة الخلاف الأمريكي الدائم مع موسكو إلى قائمة المعضلات الأمريكية. وبوضع كل ذلك في الاعتبار وصل صناع السياسات في الولاياتالمتحدة إلى قناعة بأن السياسات الحالية بحاجة إلى إعادة مراجعة، في الوقت الذي تتركز فيه الجهود الأمريكية العسكرية والسياسية الآن على كل من العراق وأفغانستان، ولا يوجد حل قريب في الأفق لتلك المشكلات، سواء على المدى البعيد أو القريب، كما أن الأهمية الجيو-سياسية لهذين البلدين ليست كبيرة كما يبدو، فإنهما لا يؤديان سوى إلى استنزاف المصادر الأمريكية ومصادر الناتو، وإبعادهما عن القضايا الأهم؛ مثل: التهديد النووي الإيراني، وأمن الطاقة الأوروبي، وهجرة الأعداد الغفيرة من البشر من الدول الفقيرة إلى الولاياتالمتحدة وإلى أوروبا، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى توترات عرقية في تلك البلدان. وحتى أواخر مارس 2009م لم تكن واشنطن قد صاغت بعدُ برنامجًا مفصلاً للسياسة الخارجية، بالرغم من أن أهم عناصرها قد اتضح بجلاء، وقد فصَّل نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن تلك العناصر في خطبته في مؤتمر ميونيخ الأمني في 7 فبراير 2009م، وتعتقد الإدارة الأمريكيةالجديدة في البيت الأبيض أن أهم التحديات والمخاطر على الأمن القومي والعالمي تأتي من انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومن الأمراض والأوبئة، والفجوة التي تزداد اتساعًا بين الأغنياء والفقراء، والمشاحنات العرقية والطائفية، ومن الدول الفاشلة، وكوكبنا الذي تزداد حرارته، وعدم أمان إمدادات الطاقة، ومشكلات الغذاء والمياه، وكذا التحديات أمام الحريات والأمن، وخطر المتطرفين الراديكاليين. ومن أجل معالجة تلك المخاطر والتحديات، تهدف واشنطن إلى تقليل الفقر المدقع إلى النصف بحلول عام 2015م، والقضاء على الفجوة في التعليم العالمي، وإلغاء ديون أفقر دول العالم، وإطلاق ثورة خضراء جديدة، والترويج للديمقراطية ليس من خلال فرضها بالقوة من الخارج، ولكن عن طريق العمل مع المعتدلين في الحكومات والمجتمعات المدنية لبناء المؤسسات التي من شأنها حماية الحريات. ومن أهم نقاط التغير في السياسة الخارجية الأمريكية هي رغبة الولاياتالمتحدة في عقد محادثات مباشرة مع إيران، بالإضافة إلى أوامر أوباما بإجراء مراجعة استراتيجية لسياسة أمريكا في كل من أفغانستانوباكستان، بالإضافة لمحاولة أمريكا إعادة ضبط علاقتها مع روسيا، ولكن يبقى السؤال: ماذا يريد صناع السياسة الأمريكيون من كل ذلك؟ التحدي الأمريكي والرد الإيراني: إذا نجحت أمريكا في أن تقنع إيران بالتخلي عن برنامجها لصنع الأسلحة النووية، وأن توقف دعمها للمنظمات الإرهابية الإسلامية مثل حماس وحزب الله، فإن الموقف الاستراتيجي في الشرق الأوسط سوف يتغير بصورة كبيرة، فحيئذ ستتوقع إيران حصولها على مساعدات اقتصادية سخية، وأن توسع وتحدث صناعتها للنفط والغاز، والأهم هو تحويل نفسها من مصدر للقلاقل إلى عامل استقرار في المنطقة، ولكن السؤال هو عما إذا كانت إيران مستعدة لعقد صفقة مع الولاياتالمتحدة أم لا؟ والمنطقة الوحيدة التي تشترك فيها المصالح الإيرانية مع مصالح العالم المتحضر هو منع انتصار حركة طالبان في أفغانستان، ولهذا السبب لم يكن لدى النظام الإيراني أية اعتراضات على الجهود العسكرية الأمريكية لاحتواء حركة طالبان، وربما لهذا السبب وافقت طهران على المشاركة في مؤتمر الأممالمتحدة حول أفغانستان الذي عُقد في أوائل أبريل 2009م بهولندا. العلاقات الروسية الأمريكية: بعد خطاب بايدن في ميونيخ أصبحت كلمة "إعادة ضبط" العلاقات جزءًا من المفردات السياسية، كما شُوهد العديد من الخبراء الأمريكيون يزورون موسكو مؤخرًا في محاولة لعقد علاقات غير رسمية مع النخبة الحاكمة الروسية، ويقول الدبلوماسيون الروس: إن أمريكا أخيرًا أدركت أن روسيا قامت من كبوتها، وأصبحت الولاياتالمتحدة تأخذ المصالح الروسية مأخذ الجد. وقد صرح أندريه لاريونوف، المستشار الرئاسي الروسي السابق لشئون السياسات الاقتصادية قائلاً: "إن مثل ذلك التحول في سلوك الولاياتالمتحدة لا يمكن وصفه بأنه تراجع أو رجوع لسياسة الإرضاء التي سادت العلاقات بعد اتفاقية ميونيخ عام 1938م، ولكنه تسليم من الولاياتالمتحدة بقوة روسيا، وهو إشارة واضحة لكافة القوى الليبرالية والديمقراطية في روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق أن الولاياتالمتحدة تسحب دعمها -حتى الأخلاقي منه- لتلك الدول في صراعها ضد "قوى الماضي"، وأنها انحازت إلى صفوف ألدّ أعدائها، وهذه أيضًا دعوة صريحة إلى نظام الاستخبارات في روسيا بأن يتدخلوا مرة ثانية في شئون دول الاتحاد السوفييتي السابقة وما وراء ذلك". ولكن ذلك التقييم لا يعكس بدقة جوهر توجه الإدارة الأمريكيةالجديدة للتعامل مع روسيا، فواشنطن قدمت لموسكو صفقة: ففي مقابل مساعدة روسية حقيقية لإنهاء البرنامج النووي الإيراني، يمكن للولايات المتحدة أن تلغي خططها لنشر منظومة الصواريخ الدفاعية في أوروبا، وقد أوضح وليام بيرنيز نائب وزير الخارجية الأمريكية شروط تلك الصفقة بجلاء أثناء زيارته إلى موسكو في منتصف فبراير عام 2009م. كما يمكن أن تشمل الصفقة أيضًا ألا تضغط أمريكا بقوة من أجل عضوية أوكرانيا وجورجيا بحلف شمال الأطلنطي، في مقابل المساعدة الروسية في أفغانستان، أما فيما يتعلق بمصير الديمقراطية الروسية، فإن البرجماتيين في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى قرروا منذ وقت طويل أنه إذا ما كان الشعب الروسي قد رضي في السابق بالعيش في ظل الدكتاتورية السلطوية، فلا يوجد سبب لإضاعة الوقت والجهد في محاولة إقناعهم بتغيير عقولهم، فالأهم بالنسبة للغرب ليس هو جودة أو سوء النظام الروسي، ولكن الأهم أن يكون قادرًا على اتخاذ قررات عقلانية. وربما نتخيل أن موسكو يجب أن ترحب بالعرض الأمريكي بذراعين مفتوحتين، فقد قررت الإدارة الأمريكية أن طالبان هي الخطر ليس فقط على أمريكا، ولكن على جيران أفغانستان أيضًا، بما في ذلك روسيا، فإذا ما انسحبت أمريكا من أفغانستان بدون أن تهزم حركة طالبان فسوف تتهدد المصالح الروسية في وسط آسيا، وحتى في شمال القوقاز بصورة كبيرة، كما أن نجاح البرنامج الصاروخي الإيراني يعني أن الأجزاء الكبرى من الأراضي الروسية سوف تكون في مدى الصواريخ النووية الإيرانية، كما أن الأهم هو أنه إذا وافقت موسكو على التعاون مع واشنطن بشأن إيرانوأفغانستان، فسوف تكفّ الولاياتالمتحدة عن التحدث في قضية اعتداءات روسيا ضد جورجيا.