لأنك تُخرجين ملابسك الصيفية من الخزانة.. سأعلن عن الظل البارد على بدء مهرجان تلقيح الطلع في النخيل.. وسأعلن عن كل فواكه الصيف التي تختبئ أن تظهر.. وكل الفلاحين، وأدوات التبريد وتلطيف الجو من سمومه الحارقة.. فأنت امرأة يثربية بامتياز. تعلمت يا يثربية فيما مضى من حكايات جدتي التي تسردها علينا نحن الأحفاد..أن تلقيح النخيل بعد "الفلق" أي خروج العذوق من أكمامها "الكافور" ونزعه عن العذق ووضع شماريخ اللقاح من " الفحال" ذكر النخل..قد انضج رطباً جنياً. وأنا بكل صراحة مشتاق إلى ربط ثوبك الأزرق في قفاك بين الحياض..وأنت تحدقين بعينين شامختين عالماً يتكاثر فيه روائح النعناع المديني وليمون ابو زهير وأوراق الفجل والجرجير. اشتقت إلى عباءتك المخملية..وذلك المسفع البغدادي الذي أضعت عمري بين خيوطه..وإلى مروحة السعف التي كنا نتقاسمها..ثلاثة أرباعها لك والربع لي..ولذلك كنت أقضي الصيف بعرق يزحف في قفاي المبلل. اشتقت إلى مشيتك الحذرة كامرأة متلهفة إلى أولادها المغتربين.. أتذكرين " الغولة " التي تخطف الصغار من أحضان الأمهات..حكاية قديمة في عقول العجائز..قد تبخرت في جيل البلاي ستيشن ولعبة رسائل الاتصال المزعجة. اشتقت إليك وأنت تعانقين أمك حين تسمعين صوت مكينة بئر المزرعة..وحين تهمسين لها قولي " لأمنا الغولة " ألا تأخذني مع الصغار المختطفين...أحب قسوتها. ريثما تضعين الشيلة على جذع النخلة.. سأكتب خاطرة نثرية فقدتها في دفاتري القديمة..كي أمجد فيها وجهك الصبوح كسماء صافية..وأنت تترقبين سحابة صيف يغير مزاجك الذي يشبه عاصفة رملية تحمل السموم الحارقة..وسأبتلع صمتي بذلك الأرز الأصفر "السقط " الذي لا تعرفين صنع غيره..وسأنام قرب جدار الطين المبلل الذي تحرصين على رشه بعد كل ظهيرة هارباً من العطش والحر. أتذكرين حينما تغصين وتنشب الغصة في الحلق وتتلعثمين في الكلام.. وتكتفين بالصمت الأنثوي المحبب إلى قلبي..وتقولين أني بليدة في الغزل..ولم أحفظ أبيات القباني وامرؤ القيس. ماذا يليق بك يا يثربية وأنت تخطرين على بالي بقوة شهب يسقط على الأرض..واراك تتحجبين بعباءة الرأس التي تقشعر منه صبايا اليوم.. أو أنك تمشين حافية في المزرعة والأشواك تنخر باطن قدمك ولا تبالين بها. ألا توافقونني أن أعمارنا تجاوزت الأربعين.. وأنه لا يكفي لحكاية حب ذهبت مع وقفاتنا الغرامية.. وأننا بحاجة لعمر موازٍ نعيشه بملامح بصرية لا تنتهي.. وأن نصف أعمارنا وأكثر نقضيها في فرح مولود وحزن شاب قتلته السكريات والدهون.. وكنا نُدرك ماذا نريد تحديداً ولكن بعد فوات الآوان. ماذا لو اكتشفت أنك امرأة أصبحت مكبلة بزوج خمري دَمّر عُمرها.. أنه كان عليها اختيار الوأد الشقي الذي كان يراه كل صباح ومساء من سور المزرعة، وتغزل بها بصمت ونظرات شغف،من دون أن تفهم معنى ذلك. ماذا لو علمت ان الواد الشقي أصبح رجلاً في الستين..و أنه لا يعرف منْ هو ولده من حفيدة..الذين خلفهم من أزواجه الثلاث الغارقات في حياة مشبعة بالقيل والقال، وأن حلم حياته كان أن يعرس بفلاحة بسيطة.. تتقن ربط ثوبها الأزرق في قفاها. ماذا لو عرفت ان غصة نشبت في حلقه وتلعثم.. وانه أصبح لا يجيد الكلام الغزلي..وان كتب العاشقين والشعراء قد مزقتها الفئران واستخدمتها نساؤه الثلاث في تنظيف أثاث المنزل. ماذا لو اكتشفت أنه يحبها.. ويتبع خطواتها كفصيل قطيع لكن من يخبرها كل هذا الحزن والغصة في الحلق؟