التحدي الأخير أمام تشكيل عصر جديد من القوى الكبرى الصاعدة يكمن في تنشيط أو إعادة خلق مؤسسات "حكومة عالمية" تعكس توزيع القوة في النظام الدولي؛ فمع تنامي علاقات القوة تحتاج هياكل الحوكمة العالمية إلى أن تصبح أكثر مرونة بما يتوافق وحقائق الواقع الجديد، وإلا فإنها ستتعرض لخطر التفكك لتحل محلها مؤسسات جديدة، وقواعد تعكس الحقائق الجديدة. والتساؤل هنا: هل توجد مناطق للاتفاق مع أو الاختلاف حول رؤية القوى الكبرى وتلك القوى الصاعدة للنظام المدني الحالي المنظم للمجتمع الدولي وقواعده المشتركة؟ وهل يمكن تطوير اقترابات متعددة الأطراف كأسس للحوكمة العالمية في عصر يشهد قوى متعددة وصاعدة؟. في أعقاب الحرب العالمية الثانية ساعدت الولاياتالمتحدة على إقامة نظام للمؤسسات الدولية وغيرها من القواعد والآليات المناسبة لمواجهة التحديات العالمية آنذاك، وعكس ذلك توزيع القوة والمصالح السائد في تلك الفترة، وكانت الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (باستثناء الصين) هي المنتصرة في الحرب، لكن بعد مرور 60 عاما، صعدت قوى أخرى، ولم تعد بعض هذه الدول من أقوى اللاعبين الدوليين.ولأن قواعد النظام الدولي تقر عادة من قبل القوى الكبرى في فترات انتقال القوة؛ فإن المسار يصبح أكثر غموضا، ويصعب تحديد دور المنفذ أو المطبق لهذه القواعد في ظل تعدد وجهات النظر للقوى المختلفة، وهكذا تصبح احتمالية اندلاع الصراع أعلى.ويمكن اعتبار الجمود في المؤسسات الدولية مثل الأممالمتحدة ومنظمة التجارة العالمية انعكاسا للتغيرات في ديناميات السلطة وانتشار القوة، وقد طرحت الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008 تساؤلات حول قدرة المؤسسات الدولية على مواجهة تحديات الحقبة العالمية الجديدة.ولخص رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون، مواطن الضعف في المؤسسات المالية الدولية في تصريح له في أكتوبر 2008، بالقول: "هذه المؤسسات أصبحت لا تواكب العصر، وإننا بحاجة لإشراف عابر للحدود على المؤسسات المالية، وتبني معايير دولية مشتركة للمحاسبة التشريعات، وتجديد مؤسساتنا المالية لجعلها بمثابة نظم إنذار مبكر فعالة للاقتصاد العالمي".ورغم تناول العديد من المعلقين السياسيين لدور مجموعة الثماني في ظل الأزمة المالية العالمية وإمكانية ممارستها لدور حيادي في المجتمع الدولي، إلا أن الأزمة كشفت عن أن مجموعة الثماني لم تعد تعبر عن المجموعة الصحيحة لإدارة الأزمة، ومن ثم طرحت العديد من الأفكار حول تجديد هذه المجموعة، فقد اقترح روبرت زوليك رئيس البنك الدولي تشكيل "مجموعة الأربعة عشر" G-14، من خلال إدخال مشاركين دوليين جدد، واقترح البعض الآخر أن تعكس هذه المجموعة بإنصاف حقائق توزيع القوة الراهن بين الدول.في عصر متعدد الأقطاب؟لقد سلطت الأزمة المالية الضوء على علامة أخرى فارقة لحقبة جديدة للعلاقات الدولية، وبعد مرور أكثر من نصف قرن، وضعت خلاله الولاياتالمتحدة معايير لتشكيل ووظيفة المؤسسات الدولية، بدأت القوى الأخرى في النظام الدولي التأكيد على ما تملكه من امتيازات. وأجبر التراجع النسبي في القوة الأمريكيةواشنطن على القبول بوضع دول أخرى لقواعد جديدة للعبة. وإذا كان إعادة بناء هذه المؤسسات التعددية لابد أن يعكس حقائق القوى الصاعدة، ويخفف من حدة الخلافات بين الدول المتصارعة، فهناك بعض التخوفات من أن تصبح المؤسسات الإقليمية أو الدولية بمثابة أدوات للتنافس بين القوى المتصارعة في فترات انتقال القوة، وقد ظهر ذلك جليا في التنافس الصيني - الياباني في قمة شرق آسيا لعام 2005.ومع بدء تشكل هذا العالم الجديد، ظهرت العديد من المدارس الفكرية التي تقدم إجابة حول كيفية تعامل الولاياتالمتحدة مع الظروف العالمية المتغيرة. وركزت إحدى هذه المدارس على "التفوق" الذي تحظى به الولاياتالمتحدة على بقية دول العالم، رغم اعتراف أنصارها بالظروف المضطربة والخطيرة التي يمر بها العالم. وطبقا لهذه المدرسة فإن أمريكا ما تزال قوة عسكرية لا تنافس، أو وفق تعبير إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي عام 2002، فإن أمريكا "ليس لها منافسون أنداد". أما المدرسة الثانية تؤكد على حتمية الصدام بين القوى الكبرى، مستندة إلى أفكار "الواقعية" أو القضايا الحضارية والثقافية. وتقر المدرسة الأخيرة حقيقة بما يعرف ب عصر "ما بعد أمريكا"، لكن أنصارها اختلفوا حول كيفية التعامل مع هذا العصر؛ فقد أيد البعض ظهور عالم متعدد الأقطاب، بينما فضل البعض الآخر إعادة معالجة مفهوم العزلة من خلال حماية أفضل لدول الجوار.وطبقا لآراء "منى سيتفون" و"نينا هاتشيجين"، مؤلفتي كتاب "القرن الأمريكي القادم"، فإن الخيار الأفضل للولايات المتحدة هو التعامل مع القوى الصاعدة ليس كقوى منافسة، وإنما كشركاء محتملين في مجابهة التحديات العالمية؛ ففي عالم متعدد الأقطاب يصبح التركيز على التعاون الإستراتيجي بين الدول الكبرى مفيدا على المدى الطويل خاصة في ضوء القضايا الدولية الخطيرة التي تواجه العالم اليوم. بناء على هذا الاقتراب الأخير، يتعين على الولاياتالمتحدة: أولا: تقدير أهمية تعددية الأبعاد المرتبطة بصعود القوى الكبرى، فالتحدي الحقيقي للصين والهند ليس قاصرا على المجال العسكري فحسب، وإنما يشمل أبعادا أخرى لقوة اقتصادية، وثقافية، ودبلوماسية، مما قد يمكن هؤلاء القوى من أن يصبحوا "منافسين أندادا" للولايات المتحدة في المجتمع الدولي. ثانيا: تقدير حقيقة أن القوة نسبية، وأن تغير ميزان القوى في عالم اليوم يرجع على الأقل في جزء كبير منه إلى تآكل القوة الأمريكية وانهيار القوة الناعمة للولايات المتحدة، إلى جانب كونه نتاج صعود القوى الأخرى. ثالثا: لأن القوى الكبرى تسعى للتكامل والاندماج في المؤسسات الدولية، وتدشين علاقات إيجابية ليس فقط مع أمريكا، ولكن مع بعضها البعض، فسيكون من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- على الولاياتالمتحدة بناء تحالفات تضبط هذه القوى.رابعا: ما دام أن إستراتيجية أو أهداف أي قوة صاعدة تشير إلى أمريكا باعتبارها صديقا أو خصما لهذه القوى؛ فإنه ينبغي على واشنطن خلق نوع من التعاون حول قضايا ترتبط بمصالح مشتركة، ويمكن تجنب المواجهة، لكن نوعا من الشفافية الإستراتيجية سيكون مطلوبا إذا أرادت الولاياتالمتحدة بناء علاقات إيجابية. خامسا: أن يكون هدف أمريكا ليس منع القوى الأخرى من الصعود، وإنما تقوية الآليات التي تخفف من هذه الآثار على نمط توزيع القوة حول العالم، ويجب على الولاياتالمتحدة أن تدمج هذه القوى في آليات تنفيذ القواعد والمعايير الدولية على نحو يجعل منها "قوى كبرى مسئولة" في المجتمع الدولي.ويمكن للولايات المتحدة بناء أو مد مجالات التعاون في قضايا مثل التغير المناخي ومنع انتشار الأوبئة، وهو ما يحقق مصلحة لجميع الدول في هذا التعاون. وكذلك يمكن لأمريكا أن تعزز من قدرتها على المنافسة عبر إعادة ترتيب الداخل من خلال معالجة الاختلالات المالية، وعلاج القضايا الداخلية التي تقوض مواطن القوة الأساسية (عمالة مدربة ومتعلمة على سبيل المثال)، ومكانة أمريكا في العالم. وأخيرا، تحتاج الولاياتالمتحدة الإقرار بأن رؤيتها للعالم ستكون حاسمة في تعريف وفهم الحقبة الجديدة، حتى لو بدت القوة الأمريكية في انحسار نسبي. فتعامل الولاياتالمتحدة مع هذه القضايا، سواء بمنطق المباراة الصفرية أو غير الصفرية، سيؤثر على رؤى القوى الكبرى الأخرى، ومع الوقت ستنعكس هذه الرؤى على الولاياتالمتحدة بالسلب أو بالإيجاب. ولكن لماذا يجب على الولاياتالمتحدة اتباع هذا الاقتراب التعاوني؟. يبدو السبب بسيطا من وجهة نظر "سيتفون" و"هاتشيجين"، وهو أن التحديات التي تواجه أمريكا في القرن الحادي والعشرين تحتاج إلى التعاون مع القوى الأخرى كأفضل سبيل أمام أمريكا لحماية وتحقيق مصالحها عبر الساحة العالمية. إن أمريكا لا تستطيع أن تحدد الخيارات المستقبلية لبقية القوى الكبرى، لكنها تمتلك الفرصة لتشكيل البيئة التي تتخذ فيها القوى الكبرى خياراتها لمواجهة التحديات العالمية المشتركة، وبشكل سلمي يتكامل مع أطر وقواعد النظام الدولي، وتحمل هذه القوى لمسئولياتها كلاعبين أساسيين على المسرح العالمي.