الإهداء : لأبي فرات ، الذي كان عود الثقاب "الخيميائي قصةٌ خرافيَّةٌ مدهشة ، إنَّها كنايةٌ عن حياة كلِّ فرد " ( ماسيمو داليما ، رئيس الوزراء الإيطالي ، يوليو 1998 م ) استطاع باولو كويلو ، من خلال روايته الشهيرة " الخيميائي " أن يقبض عليَّ ليلةً كاملة ، كنت أحد رهائنه منذ اللحظة التي فتحت فيها أوَّل صفحة من روايته إلى أن تمّ الإفراج عنّي مع مطلع الفجر . أغلقت " الرواية " ولا تزال رغبة البقاء في سجنه الاختياريِّ تسكنني ، الأمر الذي جعلني رهينًا لها ، حتى بعد الفراغ من القراءة ، وهأنذا أعود إليها بقراءة أخرى ، تقاسم باولو شيئًا من " الاكتشاف " الذي جعله وقود الرواية في شخص الراعي الأندلسي الباحث عن " الكنز ". بين الكشف والاكتشاف كانت لغة الاكتشاف هي اللغة التي سافر من خلالها الروائي في عوالم الرواية ، واصطحب معه قارئها في عالم أسطوريّ / واقعيّ ، أسطوريّ في حلّ عقد الأحداث ، ولكنه واقعيٌّ في تناميها وأخذ بعضها برقاب بعض . لغة الاكتشاف التي حرّكت الرغبة في صدر الراعي والقارىء معًا ، للسفر في عالم الرواية ، في رأيي ، هي أوكسير الرواية ، هي ملحها وسكّرها في آن ، بخلاف ما عليه بعض الروائيين ، وأخصّ بعض المحليين من روائيينا الذين يبحثون عن الشهرة ، حيث يجعلون من لغة الكشف المحرّك الأساسي للكتابة والقراءة معًا ، فالروائي ، في غالب المطروح من الروايات المعاصرة ، المحلية تحديدًا ، يحرص على أن يقبض على متعته ، ومتعة قارئه ، من خلال كشف المستور ، لا اكتشاف المجهول ، وبين الكشف والاكتشاف مغايرة في المعنى والمبنى ، وفي فهم عوالم الرواية الشائك الشائق ؛ فالاكتشاف توغّل ، والكشف إزاحة ، الاكتشاف حفر ، والكشف إزالة ، لذلك ، يحتاج الاكتشاف إلى روائي عميق في رؤيته ، تسبق ذلك تجربة عميقة ، وقراءة لمسرح الرواية المكانيّ والزمانيّ ، وقد كان باولو قارئًا عميقًا لأسرار الصحراء ، كان يتوغّل ، بعمق رؤيته للأشياء ، في عمق الصحراء فيكتشف الدرر المخبوءة ، ومن اكتشافاته العميقة ملاحظته أنّ الصحراء هي البحر ، لا فرق ، وسيأتي البحر يومًا ما ليغمر هذا المكان ، وتعود الصحراء إلى أصلها ، وتصبح الدرر في مكانها الطبيعيّ ، ماذا يقصد بالوا بهذا ؟! هذا يحتاج قارئاً يحبّ الاكتشاف ، لا قارئًا يحبّ الكشف ، أي أنّ قراء روايات ، أمثال بنات الرياض وما شابهها من الروايات التي تزيح غطاء المجتمع لتريك مخدع حبيبين ، وترفع أسقف البيوت لتريك الناس من داخل البيوت في ثياب التبذّل ، هذا النوع من القرّاء لا يصلح لباولو كويلو ، لأن باولو ، لا يمرّ بمثل هذه الأشياء التي تستدرج قارىء الشبق إلا مرورًا سريعًا ؛ لهذا كانت فاطمة هي المرأة الوحيدة التي منحها الضوء في روايته دون أن يجعلها في الهامش ، كانت فاطمة حاضرةً بقوَّة في روايته ، ومن خلال ضوء خافت لم تدعه رغبة إبقاء القارئ في أن يسلّ منه خيوطًا عديدة ليحيله إلى ركام من النسيج المتاشبك ، كانت ومضةً فحسب ، لأنّ الروائي في شغلٍ عن هذا بلغة الاكتشاف ، وهي اللغة التي تمنح الروائي رؤية أبعد وأعمق من أن تحبس قارئها في مجرى البول ، كما يفعل بعض روائيينا الأعزاء !! مثلث التجربة : الحياة مدرسة في رأيي أنَّ هناك فلسفة أراد أن يشير إليها الروائي عن طريقة العلاقة التي افترضها بين ثلاثة شخوص في الرواية : هم الخيميائي ، والإنكليزي ، والراعي . الخيميائي يحضر بوصفه المحرِّض على خوض غمار تجربة الحياة ، وهو ، إضافةً إلى هذا ، أداة أسطوريَّة بيد الروائي يستطيع من خلاله القفز على أحداث الرواية وحلّ عقد الصراع ، أمَّا الإنجليزي فيحضر بوصفه خلاصة لتجارب الكتب الناقصة ، وهي تجارب مثلّجة لا تمكّن صاحبها من مواصلة السير ، من أجل هذا غيّبت هذه الشخصيَّة ، وبقيت شخصية الراعي التي تمثّل تجربة الحياة ، ففي الوقت الذي كان يقرأ فيه الإنجليزي بعض الكتب التي تتحدّث عن أسرار الخيميائي والكنز ، كان الراعي يقرأ طريق القافلة ويتداخل مع الصحراء بعمق ، كان يرى أنّه بإمكان المرء أن ينال بغيته بكلّ بساطة دون تعقيد ، بشرط أن يلتفت إلى ما حوله وأن يواصل السير نحو المجهول للاكتشاف ؛ فالعالم كلّه يتكلَّم بلغةٍ واحدة يفهمها من يستطيع قراءة ما حوله بعمق ، ليست الكتب كافية لأن نحصل على ما نريد ، ومن هنا تفترق قراءة الراعي البسيط عن قراءة الإنجليزي ، وتختلفان في مسّهما لجوهر الأشياء . لغة واحدة تتجاوز الكلام جعل باولو بطل الرواية " الراعي" لتتحقّق له لغة اكتشاف العالم ، من خلال البحث عن اللغة التي تجمع العالم ، وهي لغة غير لغة الكلام بالطبع ، لهذا كان الراعي هو الأنسب لفهم هذه اللغة ، وهو الأنسب لقراءتها في الأشياء من حوله ، على اعتبار أنَّه يفهم القطيع بلغة غير لغة الكلام ، من هنا تحقّق للروائي ما يريد ، فكلّ الأشياء التي يفهمها الراعي ويكتشفها في تجواله وسفره ، تعود لنقطة البدء : لغة الرعاة ! هل كان باولو على اطّلاع بما يخصّ بدايات الأنبياء عليهم السلام فيما يخصّ رعي الأغنام استعدادًا لقيادة العالم نحو السعادة الأبديَّة ، ولا سيما أن الراعي ، في رواية باولو ، يبحث عن كنز قالت له الرؤيا : إنه تحت الأهرام في أرض مصر ، وهو طرف الرواية الأول ، بينما طرف الرواية الآخر تشير رؤيا زعيم القبيلة ، : أنه مدفونٌ تحت شجرة الجميز بجوار الكنيسة ! ربما كان هذا مفتاحًا يقود إلى دلالة رمزيَّة فيما يخصّ " الكنز المخبوء " وهو أن باولو ، هكذا قرأته ، يريد أن يشير إلى أنّ الثقافات الدينيَّة تشير إلى دلالة مشتركة نحو الكنز ، وقد اختار لغة الرؤيا ، باعتبارها لغة مشتركة ودلالتها واحدة عند كلّ الناس ، وانتخبها لتكون هي الرسالة التي تجمع أطراف العالم في دين واحد ؟ ولو أن باولو كان قارئا جيدا للإسلام ، لعلم أنّ دلالة الرؤيا على هذا الدين واحدة ، وأن الأنبياء ، عليهم السلام ، كلهم يسيرون في طريق واحد ، ومن خلالهم نصل إلى الكنز ، وفي اتجاه واحد ، هو الكعبة . لكن باولو لم يعط هذا الرمز حقّه من التأمُّل ، وإن كان قد أورده في سياق حركة الرواية ، وتحديدًا عند تاجر البلور الذي كان يتشوَّق ويتشوَّف لرؤية الكعبة ، ولكنه يرى أنّ عدم تحقيق هذه الرغبة تبقي الأمل معلّقًا يحقّق حياةً أفضل ، ربما في إشارة منه إلى الإسلام . رمزيَّة المثاقفة : نحن والآخر ومن هنا يمكن أن نقبض على رمزيَّة الرواية ، وهي أنَّ الراعي القادم من الغرب نحو الشرق كان يبحث عن كنزه في أرض المشرق ، ولأنَّه استجاب للغة الاكتشاف ، التي هيّأت له في الطريق تجارب عدَّة أثمرت عن حكم ورؤى بعيدة وعميقة ، استطاع من خلالها ، باولو ، أن يثبت تجربته الثريَّة في التوغّل إلى عمق الأشياء ، ودلَّ على قراءة عميقة للأمكنة وأهلها ، وهي أحد أهمّ آلات الروائي ، وقد أصاب الراعي بغيته من الكنز لأنَّه كان مستجيبًا للغة الاكتشاف التي تقول له فيما فهمته من قراءة الرواية : إذا أردت اكتشاف نفسك فاكتشف الآخر ، هذه هي العبارة التي أرى أنها تختصر وتختزل الرواية وتخرج ثمرتها ، وذلك أنَّ " الراعي " اكتشف الكنز في أرض المغرب ، أي عند موطئ أقدامه أوَّل ما بدأ في مهنة الرعي ، ولكنه لم يكتشفها إلا بعد رحلة مضنية وشاقَّة إلى العالم الآخر : عالم المشرق ، وتحديدًا أمام الأهرامات ! وليس أمام الكعبة التي هي المقابل المنطقيّ للكنيسة فيما لو كان باولو يريد أن يعقد شراكة بين دينين ، غير أنه ، فيما بدا لي ، جعل الأهرامات هي رمز المشرق . وفي المقابل لم يستطع الزعيم العربي أن يكتشف الكنز ، لأنَّه لم يستجب للغة العالم المشتركة : لغة الرؤيا ، حيث رأى هو الآخر رؤيا تدلّه على كنز مخبوء في الطرف الآخر ، عند شجرة الكنيسة ، أي في أرض المغرب ، ولأنَّه لم يستجب ، واكتفى بالبقاء في أرضه ، فإنَّه عاجزٌ عن اكتشاف نفسه ، إذ لو فعل ، لربما مرّ بالتجارب نفسها ، وأعادته الإشارات إلى الكنز ليستخرجه من أرضه . أراد أن يقول باولو ، من خلال رمزيَّة الكنز بين رؤيتين : إنَّنا لا نكتشف أنفسنا حتى نكتشف ما حولنا ، ولا نستطيع أن نعرف ما تحت أقدامنا حتى نعرف ما تحت أقدام الآخرين ، ولا يمكن أن نفهم العالم إلا بلغة واحدة : هي لغة العالم نفسه . ولكن باولو لم يشر إلى هذه اللغة ، وإنما تركها مخبوءةً بين سطوره ، وأظنه لو هُدي إلى دين الإسلام ، وقرأه بتجرٌّد ، لتعرَّف على لغة العالم الوحيدة التي أرسل الله بها رسله ، ولربما عثر باولو على الكنز ، أو لعلَّه يفعل ذلك في القادم من أيامه ، من يدري ؟ ولكن ، لماذا ، يريد باولو ، إشعارنا بعدم تفهّم ما حولنا ، وعدم الانفتاح على الآخر ، من خلال الزعيم الذي لم يستجب لرسالة الرؤيا ، في الوقت الذي يثبت فيه أنّ الراعي ، الرمز الغربيّ ، قد اكتشف المشرق وعبر من خلاله إلى كنزه المخبوء ؟ سأترك هذا السؤال معلََّقًا دون إجابة ، كي تبقى الرواية مفتوحة لقراءات أخرى ، فليس من حقِّي أن أفترض وأجيب في الوقت نفسه .