بداية أبارك للناجحين في الثانوية العامة هذا العام، ويطيب لي بهذه المناسبة أن أهديهم هذه الحكاية التي وقعت في إحدى القرى الريفية الصغيرة التابعة لمدينة " نانسي " الفرنسية ، حيث كان يعيش هناك فتى صغير مع أسرته الفقيرة ، والده كان خبازاً بسيطاً بالكاد يجد ما يسد به أجرة مخبزه وبيته وشيء من احتياجات عائلته ، هذا الأب لطالما كان رافضاً لفكرة التحاق ابنه بالمدرسة ، لأن ذلك بالنسبة له يعني فتح باب جديد للاحتياجات والمستلزمات التي ليست في إطار قدراته أبدا ، علاوة على أن ابنه أصلاً كان عامله الوحيد في المخبز وعند التحاقه بالمدرسة فذاك يعني أنه لن يتمكن من تغطية متطلبات تشغيل المخبز كالمعتاد ، وذات ليلة احتشد ضده زوجته وابنه وبعض رجال القرية ليقنعوه بضرورة إتاحة الفرصة للفتى أن يتعلم مع تعهد الأخير أن الساعات التي سيقضيها في المدرسة سيعوضها بساعات مضاعفة بعد انقضاء اليوم الدراسي ، وهذا بالفعل ما حدث ، فقد كان الفتى يؤدي مهام عمله في المخبز حتى ساعات متأخرة من الليل ، ويصحو باكراً قبل موعد المدرسة ليشعل الفرن ويُقرّب مكورات العجين منه حيث لا يتبقى أمام والده إلا خبز تلك المكورات . هكذا كان شأنه مع والتفاني والجد والاجتهاد حتى أتم شهادته الثانوية – وفي فترة الإجازة الصيفية – وبينما كان منهمكاً في توزيع طلبات الخبز على العملاء في منازلهم لمح بالصدفة على إحدى المباني ملصقاً لإحدى المعاهد العسكرية العليا تذكر فيه أن باب الالتحاق بالمعهد أصبح متاحاً ، وعلى من يجد في نفسه القدرة والرغبة أن يتوجه لمدينة " ميتز " لإجراء اختبارات القبول ، فصاح بكل جوارحه ؛ أنا لدي الرغبة.. ولكن كيف ؟ ميتز بعيدة جداً وليس بمقدور أبي تحمل تكاليف هذه الرحلة " وعند عودته للبيت ..لاحظ أباه الخباز شروده وانكسار نفسه ، وبعد إلحاح منه أخبره بأمر ذلك الإعلان .. فسكت الأب برهة قليلة ثم انصرف لحجرته ، ولم يلبث حتى عاد ثم سحب كف ابنه وأودع داخلها " 10 فرنكات " وهو يقول .. هذه كل مدخراتي .. خذها وانطلق لميتز ، فانطلق قبل بزوغ النهار من قرية لأخرى ، تارة على قدميه وتارة على عربة " كرو " لأن الفرنكات العشر لا تفي بقيمة تذكرة القطار ، لذلك اختار الوسيلة الأصعب ولم تغرب عليه الشمس إلا وهو في وسط مدينة " ميتز " ، وهناك بات ليلته في انتظار صباح الغد..موعد الاختبار ، وما إن أحس بلفحة ضوء الشمس حتى استيقظ ملهوفاً ، فأدرك من موقع الشمس أنه ربما قد تأخر ، فنهض فزعاً وهرع بكل طاقته نحو البوابة ثم المبنى ولم ينتبه إلا وهو يلهث داخل قاعة الاختبار ، هنا انفجرت القاعة بالضحك والقهقهة !! من هذا المتشرد ؟ فقد كانت ملابسه رثة كثيرة الرقع وفضفاضة تبعث على الشفقة ، فأسقط في يد الشاب وما كادت أقدامه تحمله لولا أن أحد المشرفين اقترب منه مرحباً ثم قال " يبدو أنك ضللت الطريق يا بني.. هنا مكان اختبار الراغبين الالتحاق بالمعهد " فقال الشاب بارتباك شديد" أنا أريد أن التحق بالمعهد ياسيدي " فعادت ضجة الضحك من جديد ، فاقترب المشرف منه وأخذ اسمه وبلطف شديد قال " اجلس وانتظر دورك ولا تكترث لهم " ، جلس وما هي إلا دقائق حتى طلب للمثول أمام اللجنة ، فأنصت الجميع باهتمام بالغ يدفعهم الفضول !! أي مأزق أوقع هذا المتشرد نفسه فيه؟ لكن المفاجأة أن هذا المتشرد لم يترك سؤالاً إلا وأجابه بثقه ولا باباً إلا وطرقه بطمأنينة ، لدرجة أن أحد أعضاء اللجنة قام من مكانه وعانقه ، مؤكداً سعادته بانضمامه للمعهد . هذا المتشرد هو " دروث " أحد أعظم قادة جيش نابليون الأول وذراعه اليمين في كافة حروبه . وأنتم أيها الخريجون من الثانوية العامة .. لا يظن أحدكم أنه أقل من دروث.