تزوجت وهي لا تعرف ما القراءة ، ولا تدرك أي مدلول تقصده مفردة الكتابة ، لم يكن في مخزونها المعرفي سوى ما لقنتها إياه والدتها رحمها الله قبل أكثر من خمسين عاماً ، سورة الفاتحة وبضع سور قصار وشيء من التعاليم المشوشة عن كيفية الصلاة والصوم ، هذا فقط ما تحصلت عليه في رحلة حياتها التي سخرتها كلها في تربية أطفالها الستة ، خمسة أطفال ذكور غدا معظمهم آباء لكل منهم وظيفته وحياته الخاصة ، وطفلة وحيدة هي الآن معلمة ووالدة لطفلين ، كان يعتمر قلبها حُلمان ..الأول أن ترى أولادها في خير ونعمة وقد استقر كل منهم في شأن يغنيه عن حاجة الناس ، وحلم آخر ظلت تخفيه في حنايا صدرها إلى أن اطمأنت على الأول ، وامتلأت نفسها رضواناً عليه ، وهو حُلم تقليب صفحات المصحف الشريف بين يديها قارئة له ومتدبرة لمعانيه . رغم أن الواقع لم يمل ترديد حقيقة أميتها على مسامعها طيلة الخمسين سنة الماضية إلا أنها لم تنثن له ، ولم تستكن لصدماته المستمرة ، وخاضت أعتى معاركها في تحرير عصفور آمالها عن قيوده ، تلك القيود الشرسة التي تكومت قضبانها مع تعاقب السنوات الخمسين من عمرها حتى ظن الجميع أن ما تصبو له بعيد المنال قد ضربت عليه الدنيا بسياج المستحيل ،لكن وكما قيل لا يوجد مستحيل في وجه من يحاول ، أخذت تقض جدران ذلك المستحيل بمعول ثقتها بالله ثم بإرادتها الصلبة التي دفعتها لتقييد اسمها ضمن فصول محو الأمية في مدرسة البنات القريبة منها ، حيث راحت تتردد عليها عاماً بعد عام إلى أن تحصلت على شهادة إتمام المرحلة ، لكنها لم تجد نفسها قادرة على قراءة المصحف كما أرادت ، فأعادت الكرة للمرة الثانية ثم الثالثة دونما كلل أو ملل أو اكتراث لتهكم الساخرين وإحباط المتربصين ، كانت تروح وتجيء للمدرسة عصرية كل يوم بكل أريحية واطمئنان وفي عزيمة وصبر وطولة بال لم تخل أبداً من الاجتهاد والمثابرة ، لتجد نفسها في نهاية المطاف تغرد كما أرادت بآيات القرآن ومعانيه آناء الليل وأطراف النهار وتقلب بأناملها الطاهرتين صفحات كتاب الله صفحة صفحة وسورة سورة تماماً كما كانت تتمنى وتحلم طيلة العقود الخمسة التي مضت ، ليس هذا وحسب وبل بدأت تقتني كتب التفاسير وشروحات الأحاديث النبوية الشريفة بشيء من شغف التعلم ونهم المعرفة . ولأن الأحلام تستولد الأحلام .. والقلوب المفعمة بالإيمان وحسن الاتكال على الله تستنبت الإرادة كما تستنبت الأرض النخيل الباسقات فقد تاقت لشيء أبعد من القراءة وأعمق من الكتابة ، إنه حفظ كتاب الله عن ظهر قلب ليغدو قنديلها الذي لا يخبو .. وسراجها الذي لا ينطفئ وأنيسها ومؤنسها وعماد روحها لما تبقي لها من عمر ، فكانت من أولى الطالبات المبادرات للتسجيل في دار الفضيلة لتحفيظ القرآن الكريم سنة افتتاحه قبل أربع سنوات ، وبين جنبات تلك الدار اطلقت مستعينة بالله ذهنها وقلبها في ملكوت كتابه العظيم ، وانكبت بكل جوارحها على حفظه الآية تلو الآية .. والسورة تلو السورة .. والجزء تلو الجزء حتى أتمت بحمد الله حفظ كتاب الله كاملاً في ظرف 4 سنوات على مرأى ومسمع من طالبات الدار اللاتي كن معظمهن في سن حفيداتها ، لكنها الإرادة حينما تستوطن النفس تغدو المسافات الطويلة مجرد خطوات قصيرة ، إنها ( شهرة بنت عبدالرحمن بن ناصر ) .. أمي العزيزة وسيدة عرش قلبي .. وأميرتي وصاحبة كل الفضل علي وعلى إخوتي .. وأنا هنا أبارك لها هذا الانجاز العظيم وأدعو الله أن يجعل هذا القرآن الكريم الذي استودعته قلبها الطاهر ربيعاً له وجلاء لكل حزن فيه ، وشفيعاً لها يوم العرض والحساب . آمين.