فاجأتني صفحتا "ديجيتال" اللتان ابتدعهما الاذاعي التلفزيوني المعروف.. والاعلامي الصامت هذه الايام: عدنان صعيدي.. الذي لا أدرى من أصمته: أهو جريه الطويل وراء "الترقية" الذي أوصله الى المدينةالمنورة حيث الرضا والدعة والهدوء..! أم هم اعداء النجاح الذين قايضوا إمساكه بالميكروفون.. ب"بنكنوت" الترقية. ليصبح في النهاية نملة تأكل سكراً.. كما يقول مثلنا الشعبي المتخاذل (قع ضرة.. تأكل سكر). إنني ارجو ان لا تطول به "سكرة" الترقية.. حتى لا يجد نفسه في النهاية يردد ما قاله العقاد بعد أن مضى زمنه: اطفأت مني الليالي شعلا بعد شعل من غواياتي واحلامي ومن برق الأمل .. فنحن لا نريد موظفاً على المرتبة العاشرة او الحادية عشرة او الثانية عشرة ولكننا نريد اعلامياً بحيوية وحيرة وحرارة عدنان صعيدي. أعود الى الحديث عن صفحتي ديجيتال وسلسلة المفاجآت التي وضعتني امامها، والتي كان أولها هي عودة صاحب الصوت المميز والذي لا يمكن ان تخطئه الأذن بين عشرات الأصوات الاذاعية الاستاذ عدنان صعيدي.. الى الاعلام ولكن ب(القلم) هذه المرة وليس بالصوت او الصورة من خلال تقديم البرامج أو اجراء الحوارات او حتى بالمشاركة في قراءة نشرات الأخبار، وهي عودة وكأنه يتأسى فيها بزميليه الاعلاميين الكبيرين الرائدين الاستاذين بدر كريم والدكتور عبدالرحمن الشبيلي.. عندما عاد الأول الى الاعلام بالقلم من خلال كتابه التاريخي الراصد ل(نشأة" وتطور الاذاعة) في عام 1402ه وعندما عاد الثاني الى بحر الاعلام ونهره ليغرف منهما مادة كتابه الوثائقي الكبير عن "الاعلام في المملكة العربية السعودية" عام 1421ه. أما مفاجأتي الثانية ذات شقين: شق.. يتعلق بهذا العنوان الرقمي الجميل الذي اختاره لصفحتيه (ديجيتال) فقد كان جذاباً بقدر ما كان عصرياً والى ابعد الحدود.. بعد ان اصبحنا نعيش هذه الايام زمناً رقمياً في الكثير من مفردات تقنياته، ف"الرديوهات" أصبحت ديجيتال، والتليفزيونات ديجيتال، والجرامفونات واسطواناتها التقليدية الجميلة تراجعت لتفسح المكان للأقراص المدمجة او (السيديهات) - ب(جرامفوناتها) الديجيتال الصغيرة والمحمولة التي تفاجئك بامكاناتها المذهلة والتي تنقل اليك ادق تفاصيل ما عزفه العازفون وأنشده المنشدون بأضعاف ما كانت تنقله أكبر الجرامفونات حجماً وأضخم السماعات طولاً. أما الشق الثاني فهو يتعلق بقلمه السهل والبسيط والتلقائي الذي فاجأني. تماما، والذي لم أكن أعرفه من قبل في أخي عدنان.. فقد عرفته اذاعياً وتلفزيونياً، يبحث عن افكار جديدة وعناوين جديدة ويحتوي جديد لبرامجه الاذاعية والتلفزيونية، يخرج به وبها عن السائد والمألوف والمعروف من المسميات: كبرنامج "لقاء الأجيال" و"نقطة تحول" أو "للحديث بقية" وقد استضافني في اولى حلقاتها جميعاً دون ان اكتشف انني كنت فأر تجارب اذاعية عنده وربما عنده بعض زملائه الا عندما ذكر ذلك في صفحتيه ديجيتال! على ان برنامجه "رحلة على الهواء" والذي خصص احدى حلقاته عن (فتى الاحلام) و(فتاة الاحلام) والذي شاركت فيه.. ظل عالقاً بالذاكرة الى يومنا هذا وبكل تفاصيله.. لجرأة موضوعه اذاعياً ولشجاعة مقدمه في ضبط موعد بثه - مع حفل "عقد القران" لاحد المستمعين.. والترتيب معه على اجراء حوار اذاعي في ختام الحفل باعتباره "فتى "الاحلام" في تلك الليلة، فقد كنت طوال الحوار مع اخي عدنان الذي شغل القسم الاول من وقت البرنامج عن فتى الاحلام وكيف صورته الرومانسية الغربية في الماضي.. عندما كان يتسلق شرفة فتاة احلامه ليبثها لواعج حبه واشواقه كما كانت حال (روميو) مع (جولييت)..!! او كيف كان يستطيب الجلوس تحت شرفتها ليعزف لها على قيثاره ما يرقق قلبها ويدفعها للاستجابة الى حبه، اما اليوم فان صورته قد تغيرت تحت إلحاح الظروف وضغوطها، فلم يعد يأتي لفتاة احلامه على حصان أبيض ليخطفها ويطير بها.. وهكذا.. إلا أنني كنت طوال هذا الحوار قلقاً مشغول البال من احتمال الفشل في نقل حفل عقد القرآن اذاعياً على الهواء فضلاً عن اجراء الحوار او (الدردشة) مع فتى الاحلام هذا لكن شجاعة (عدنان) وثقته المهنية بنفسه كانت تثيرني بقدر ما كانت تعجبني، فقد ظل واثقاً مطمئناً طوال دقائق قلقي وخوفي.. بأن كل شيء سوف يتم وفق ما خطط له، وعندما تم نقل الحفل اخيرا وجاءنا صوت فتى الاحلام على الهواء من موقع الحفل وبدأنا الحوار معه كانت ضحكات سعادتي بنجاح الخطة تطغى على الحوار مع فتى الأحلام. خلاصة القول الذي اردته هو انني لم اعرف (عدنان) كاتباً بهذه السلاسة والطلاقة ولكنني عرفته من خلال برامجه الجديدة دائما والتي تحدثت عنها.. محاوراً ذكياً: يسال أحيانا ليعرف، ويسأل احياناً ليسترضي ضيفه، ويسأل احياناً ليستفزه او ليخرج من صدره المسكوت عنه.. وقد كنت ضحية لكل هذه الانواع الثلاثة، ولكنه عندما كتب على الموجة الطويلة (في صفحتيه ديجيتال) بتلك السلاسة عني وعن مشاركاتي مع نجمي النجوم: الزيدان في "لقاء الاجيال" وعزيز ضياء في "مشوار".. ثم عاد في نفس الصفحتين ليكتب على (الموجة القصيرة) مستحثاً زملائه ليكتبوا عن أولئك الرواد الكبار الذين عاشوا معهم سنين طويلة خلف الميكروفون وفي استديوهات الاذاعة وكواليسها بعد ان غطى رماد النسيان على ذكراهم، من امثال الطنطاوي والمزمخشري والرويحي.. فقد ذكرني بهم جميعا واشجاني بل ولا ابالغ عندما اقول بانه اسال الدمع من عيني، فقد عرفت هؤلاء الذين ذكرهم وذكرتهم جميعا في الاذاعة والتلفزيون، وفي الصحافة، وفي بيوتهم، وفي طعامهم وشرابهم، وفي افراحهم واحزانهم وشطحاتهم وصبوات احلامهم.. فقد كانوا شيوخاً وكهولاً يحلمون وعندما ماتوا ماتت معهم بقية احلامهم!! كانوا عباقرة دون شك، وكانت لكل منهم مساحته فوق القمة، ف"الزيدان" كان فيلسوفاً مشاءً يمثل صخب الحياة الجميلة ودفئها.. كان تاريخاً يمشي على قدمين، اما اذا اعتلى المنبر فهو امير الكلمة المرتجلة لا يسبقه ولا يلحق به احد، اما "عزيز ضياء" فقد كان الاديب والفنان عاشق المرأة والموسيقى: مكتبه محراب يقع وسط فردوس من الالحان وزقزقة العصافير.. فاذا بدأت الحديث معه في التاسعة ثم نظرت عفواً الى ساعتك بعد حين فانك ستكتشف ان الليل قد انتصف وانت لا تدري. اما "شيخنا الطنطاوي" فهو نغمة فريدة بحضوره وبالذكاء الذي تلمع به حدقات عينيه الصغيرتين وبردوده العفوية التي يقصدها.. فهو شيخ بين الشيوخ، واديب بين الادباء، ومثقف في مقدمة المثقفين المستنيرين.. اما (الزمخشري) فهو الحزن شعرا والمرح فوق موج الاحزان حياة.. اعتقد انه بامكانه ان ينتصر على احزانه ب(الشعر) فكتب ما يزيد عن عشر مجموعات شعرية فلم ينتصر وظل على رأيه! مهما اراق دمي في الشجو اعصار لسوف تبلغ بي للقصد اقدار اما "الرويحي" الساخر كاتبا والساخر حياة والممتع في احاديثه كما في كتاباته كما في مسلسلاته، والذي اختصر مواقفه في عبارته الخالدة: "كلها خمسمائة سنة وتتعدل"!! فقد كان طبيبي الذي لجأت اليه لأتداوى على يديه بالبسمة والضحكة، وبرفقته الى البحر في (أنصاص) الليالي المقمرة، وقد شقيت بعد شهر من قلقي وسهدي والاقراص المنومة التي كنت اتعاطاها بغير حساب، ولكن.. مات طبيبي في سنوات العنفوان من عمره وهو في الواحدة والخمسين. لقد كان من حسن حظي ان اعيش معهم وقد غدوا نجوما ساطعة بضع سنوات عقودهم الاخيرة، فتعلمت منهم واستمتعت بهم وبحلاوة الاتفاق معهم ومتعة الاختلاف بينهم، وعندما ماتوا لم يمت حضورهم معهم، وظلت سنين النسيان اضعف من ان تطويهم من جوانحي، ولكن ومع ذلك وكلما ذكرهم او تذكرهم احد كاخي عدنان في ديجيتال، تحشرج صوتي وتندت عيني بالدموع..! ويبقى بعد هذا ان ازف التحية لاخي الاستاذ عدنان صعيدي.. على كتابته هاتين الصفحتين.. اللتين كانتا تستحقان الاستمرار لا التوقف بعد حين طال او قصر، ولكنه.. ربما فعل ما هو افضل عندما حول محتوياتهما مضيفاً إليهما ما جادت به خواطره، وجد من ذكريات حياته مع (الميكروفون) وعلى (الشاشة).. الى هذا الكتاب، الذي يستحق التهنئة على جهده في اصدار.. لان ما كُتب في تلك الصفحتين.. ما كان يصح له ان يمضي الى دروب النسيان.. بل ان يصعد الى قلب الذاكرة (الاعلامية) في (كتاب) يرجع اليه عشاق (ميكروفون) الاذاعة والمولهون بسحر (الشاشة) الصغيرة.. وما اكثر هؤلاء وأولئك من الاجيال الشابة القادمة الواعدة. عبد الله مناع القنفذة 10/3/1435ه 11/1/2014م