بعيدا عن مسلمة مفادها أن كل الأغاني التي ظهرت، والتي ستظهر لاحقا، على إيقاع الحرب الدموية على غزة لا ولن تعادل حجم الألم والموت والتضحية الفلسطينية، وكذلك الهمجية المجنونة التي يفرضها الاحتلال، وفي المقابل المقاومة الأسطورية التي تثبت فكرتها وقانون الحياة قبل موقفها، بعيدا عن تلك المسلمة؛ فإن الغناء الوطني العربي الذي ظهر خلال الأيام العشرة الأخيرة يثير في جزء منه الاشمئزاز والسخف تارة، والبكاء والحسرة تارة أخرى. اشمئزاز حقيقي، لا مجال لنعته بتوصيف أثره فينا إلا بهذه الكلمة، وسخف ينم عن حالة من الفقر الإبداعي، وفقدان الوعي بالغناء ذاته، والسبب في ذلك يعود لحالة الانقطاع التام بين الغناء والقضايا العربية منذ عشرات السنين، إنه ليس انقطاعا فقط، بل طلاقا بائنا بينونة كبرى بين موضوعات الغناء والواقع العربي إلا في أوقات المجازر والمعارك الدامية، وهو نتاج طغيان نمط غنائي نشاز ومرضي دون أدنى مبالغة. وكنا قد قلنا سابقا إن ما يجري ليس فقط غياب فن وغناء أويحمل أبعادا لثقافة المقاومة والصمود أو التعبير عما يجري في أرضنا العربية التي تعتبر غنية بالإمكانيات والتعبيرات والأشكال الفنية، بل هو غياب لفن أو غناء يليق أن يتم التعامل معه في فترة مقاومة أو حالة عدوان، لتحدث القطيعة التامة بين ما قبل الحرب وما بعدها، ليكون المشهد أن كل ما كان يقوم به سابقا "فنانونا" لا يصلح أن يقوموا به في فترة الحرب وما بعدها، وبالتالي يكون الحل الأمثل والأسرع والأسلم في ظل حجم سخونة الدم، وثقل المشاهد التي تنقلها الفضائيات من قتل وتدمير وقصف لا آدمي هو ارتجال أغانٍ وأعمال فنية توصف جزافا بأنها فنية، فتظهر سخف القائمين عليها، وفقرهم الإبداعي، وضعف وعيهم إذا ما افترضنا النوايا الحسنة. وأعلن هنا رفضي لهذا النمط من "الغناء الوطني"، والذي يكون عبارة عن هبة مفتعلة تركن إلى تيمات تقليدية وموضوعات مباشرة، وأعلن كرهي التام لهذا النمط الفج من الغناء الذي لا يحترمني كمستمع ولا يقدر الشهداء الذين يسقطون دفاعا عن أرضهم. ومن بين كم الغناء القليل، والذي يمكن عده على الأصابع هناك أغنية واحدة كانت الأكثر انتشارا وتنقلا وإرسالا بين النشطاء والمناصرين، أغنية واحدة يمكن أن تجدها على "الفيس بوك" وال"يو تيوب" وعلى بريدك الإلكتروني وعلى المواقع الشخصية والعامة، أغنية واحدة يمكن أن تنقلها لأصدقائك عبر "الماسنجر" أو تطلب منهم البحث عنها لسماعها. الأغنية من تلحين وغناء "مايكل هيرت" وبعنوان "We will not go down" "نحن لن نستسلم"، والأغنية ليست معجزة، ولكنها تدهشك لفرط صدقها وبساطتها، وبذا تتأثر بها وتتفاعل معها، وهي التي صنفها البعض كأفضل وأصدق أغنية تعبر عن غزة وحال أهلها والعرب الذين يصرخون دعما وتأييدا من حولها. السؤال لماذا؟ لماذا نبحث عن أغنية عربية تعبر عنا فلا نجد؟، في حين نجد ضالتنا في أغنية أجنبية من ذلك البعيد، والسبب وهو لا يحتاج لعناء بحث وتفكير، فالأغنية دعوة للصمود، صوت أجنبي يؤكد عدم الاستسلام ويرفضه، وهو الصوت الذي يعبر عن ضمير الشعوب العربية كلها. تقول الأغنية ببساطة: ضوء أبيض شديد السطوع/ يضيء سماء غزة الليلة/ الناس يسرعون للاحتماء/ لا يعرفون إن كانوا سيعيشون أو يموتون/ يأتون بدباباتهم وطائراتهم/ باللهب الناري والاجتياح/ ولا شيء يبقى/ مجرد صوت يعلو من بين الضباب والدخان: "نحن لن نستسلم"/ في الليل وبدون قتال/ تستطيعون حرق مساجدنا ومنازلنا ومدارسنا/ ولكن أرواحنا لن تموت: "نحن لن نستسلم".. في غزة الليلة... إلخ". بينما قراءة سريعة لمجمل الأغاني الوطنية/ السياسية/ التجارية التي ظهرت مؤخرا لتعبير عن نبض الفنانين والمغنين العرب، تؤكد ذلك الإحساس بالهزيمة والخذلان، إنها مصدر إحساس بالهزيمة، فمطرب "الجيل"!! "تامر حسني" قدم في أغنيته العجز وكرسه في بكاء وعويل، لا يليق بفنان يقدم فنا على إيقاع ملحمة وأسطورة، و"وليد توفيق" يعزف على ذات الأسطوانة المشروخة فيفشل، و"نصير شمة" يوزع قبله على سكان غزة... إلخ من الأعمال المرتجلة. الغالبية تعزف عن سماع هذه الأغاني الوطنية، وجزء كبير منا يكرهها حقا، وسنضع أغنية نصير شمة جانبا؛ لكونها الأعمق إحساسا وأثرا بالنفس، برغم أن الغناء ليس ساحة لنصير مطلقا، وكان الأجدى به لو قدم لحنا يحيي غزة من خلاله، لكن أغنية "مايكل هيرت" هي من يتداولها الجميع، لكونها تعبر عنهم، وتبدو كأنها شعار المرحلة القادمة ومن قبلها شعار اللحظة الدموية، لحظة الصمود. وحسنا فعل "محمد منير" عندما قال: "لن أتاجر بدماء غزة"، وهو صادق، وأي غناء لا يلتزم الإبداع طريقا، ولا ينطق بلسان هذه الشعوب العربية، هو في الحقيقة يأتي لهدف تجاري بحت، فمنير قصد أنه لن يقدم أغنية تجارية طارئة يتكسب بها من شلال الدم والدمار، أو يبيض من خلالها صفحته من دم غزة معلنا القيام بدوره. أمر استثمار الدم في غزة تجاريا حقيقي وواقعي، وليس في مجال الغناء الذي تحدث عنه الفنان صاحب المشروع الفني "محمد منير"، بل هناك قنوات تتاجر بدم غزة أيضا، وتحديدا عندما تعلن قناة فضائية أنها ستعرض مسلسل "الاجتياح" "لأجل" عيون شعب غزة، وهي القناة التي رفضت سابقا فعل ذلك، لكن المختلف هذه المرة أن العرض سيقدم لها دخلا إضافيا في ضوء حماسة الجماهير وعواطفهم الجياشة لغزة وللمقاومة، وتحديدا بعد أن فاز المسلسل بأكبر جائزة عالمية "إيمي أورد". وبعيدا عن الاستثمار، وهذا ليس حديثنا اليوم، فإن المؤكد أننا نعاني من الفقر الإبداعي ذاته، وهو يتضاعف عندما يتماس مع القضايا الوطنية؛ وهو ما يلزمنا بمحاولة فك الالتباس العظيم في قيمة العمل الفني عندما يتناول قضايا وطنية، فليس مبررا تحت أي ظرف أن تأتي الأعمال الفنية التي تحاكي جرحنا النازف مجرد اجترار وتكرار لكلام معروف وعبيط وخطابي. فجزء كبير من الأغاني الوطنية تأتي بذات الطابع والمضمون البكائي والخطابي المباشر والفج، كما تفتقد الصدق الفني، وهو ما راكم وعيا سلبيا تجاه هذه الغناء لدرجة دفعت البعض إلى إعلان كرهه للأغنيات الوطنية، وأنا منهم، وهو كره في محله تماما، ولا يعني كره قضايانا الوطنية ذاتها، لكنه تعبير عن حال الأغنية الوطنية ذاتها، والتي يجري تسويقها وتسليعها وتسييسها. فلا يمكن لمغنٍ يقدم غناء تافها ونمطيا وساذجا طوال الوقت، أن يأتي في ليلة وضحاها ليقدم لنا غناء وطنيا يعكس مشاعرنا ويؤثر فينا، وحتى لو فعل ستكون النتيجة محكوما عليها بالفشل، وما نراه ونسمعه خير دليل، إنها "أصوت نشاز"، كما قال علي الحجار مؤخرا في حوار صحفي، والأصوات النشاز لن تقدم إلا غناء نشازا، حتى وإن تذرع بالوطني والألم العام، ولو اتكأ على الصور الساخنة القادمة من المعركة بطزاجة دم الضحايا. إنها أصوات تحاول أن تبتزنا؛ ولذا علينا أن نعلن كرهنا ورفضنا لجزء كبير جدا منها، نعلن حقدنا على حالة التعفن الإبداعي والفشل المتجذر، والاستثمار الرخيص لدماء غزة، على كل أغنية لا تلتزم بشرط الإبداع، وتتغذى من صور نشرات الأخبار، وتتكئ على دم الضحايا وهمجية الإرهاب الصهيوني، أن نعلن كرهنا لها ورفضنا لصاحبها، ولنطالب بحقنا بغناء يجعلنا نشعر بالزهو الشفاف والجميل، يغشانا بمشاعر راحة، وفخر وألم إنساني عميق، ويتعامل مع جرحنا بطريقة أخرى، ويلتفت إلى الألم من زوايا مختلفة، ويعلي فينا روحا وثابة للفعل والتجاوز، بعيدا عن النواح والبكاء وزرع اليأس في النفوس. صحيح لا يوجد عمل فني يجسد المأساة وعظمة المقاومة أيضا، وهو ما أصبح ترفا في ظل واقعنا، وما نراه من أغانٍ وطنية يبدو الارتجال والضعف الفني لحنا، وكلمات وموسيقى، سمات ثابتة فيها، لكن على الأقل مطلوب منا أن نمتلك الجرأة لأن نقول لا لهذا النمط من الغناء، والذي يكون تأثيره فينا تماما كما هو الفيديو كليب في أسوأ حالاته. الغناء غير أنه أداة لهجاء الحرب، وطلب السلام هو أحد أدوات مداواة تلك القلوب التي أثخنتها الجراح والآلام، فهو ضروري لنا نحن الذين نجلس أمام شاشة التلفاز ونحارب افتراضيا في غزة، وضروري للأجساد التي تتلقف القذائف، ولأولئك الناس المؤمنين الذين يصلون عليها ويعلنون استمرار الحياة. لا نريد العودة لغناء قديم فقد الكثير من بريقه بفعل اختلاف اللحظة الأليمة والمأساوية، بل نريد الغناء لغزة وأهلها والشعوب العربية التي تسبح في بحر غضبها، وهو غناء وطني حقيقي يتجاوز أن يكون كلمة حب إلى رغبة في بناء جسر حقيقي من المشاعر الراقية، وفعلا يجعلنا نقترب من الحدث أكثر بعكس ما تفعل نشرات الأخبار التي تبقينا حوله وخارجه. ناقد فني