ذات مرة عُهد إليّ بترجمة مقطع فيديو لوزير الخارجية الإسرائيلي، يروج فيه لمدينة القدس كدعوة لزيارة المدينة المقدسة من خلال تزوير التاريخ والحقائق، فيتحدث فيها عن القدس بقبابها وكنائسها وكنسها ومواطنيها العرب واليهود والمسيحيين الذين يعيشون في سلام وأمان. هذا الوزير الذي أدى دوره كممثل بارع في خلق الأكاذيب، يدرك تماماً أهمية ذلك الفلم التسجيلي الممنتج بطريقة إبداعية مخيفة، مستخدماً الوسائل والطرق والخيالات التي تدفع المشاهد لمتابعة حديثه متنقلاً من مكان إلى آخر، ومن ردهة إلى أخرى، يسلم على هذا ويتحدث مع ذاك، يشرب هنا، ويأكل هناك والموسيقى التسجيلية تجعل الفيلم أكثر حيوية وقوة. هذا الحدث راودني للوهلة الأولى في أحد اللقاءات التي جمعت مؤسستنا التي تعنى بالشأن الثقافي وقتما دعينا لحضور ندوة عن مدينة القدس والجرائم التي ترتكب بحقها وحق أهلها، من خلال تهويدها وقتل الهوية الفلسطينية المسلمة والمسيحية فيها. وسبب مقالي هذا هو شعوري بالعجز والحزن الشديد على ما وصلت إليه القدس من تهميش وتضليل، حتى نسيناها في زحمة الحصار والحروب والإشكالات السياسية التي يعانيها الوطن. المحاضر سأل عدة أسئلة بسيطة مثل: كم عدد أبواب مدينة القدس وما أسماؤها؟ وما هو المغلق منها وما هو المفتوح؟ ما هي الجبال المطلة على المسجد الأقصى؟ كم عدد المستعمرات القديمة والجديدة التي زرعها الاحتلال الصهيوني في فلسطين؟ وعلى ماذا يفاوض الساسة اليوم؟ أسئلة كثيرة وكبيرة بحاجة إلى إجابة، لكننا عجزنا عن الإجابة أي معظمها إن لم يكن جميعها، فقال المحاضر: إذا كان هذا حال المتعلمين والمثقفين فكيف بباقي أبناء شعبنا الفلسطيني؟ سؤاله خطير وجارح، يتطلب موقف حقيقي من المسئولين الفلسطينيين لصناعة حلول أكثر إبداعية للتعريف بالقدس ومعاناتها ومعاناة أهلها الذين يطردون كل يوم بحجج واهية تصنعها قوات الاحتلال الغاشم. فلسنا بحاجة إلى مسابقة أو أمسية شعرية عن القدس فقط، بل بحاجة أن تدخل القدس إلى كل ردهة وحارة وبيت، إلى القلوب والعقول. وعلى المسئولين أن يكونوا عند مسؤولياتهم عن ذلك التاريخ الذي يهوَّد، في الوقت الذي قد يعجز فيه مسئولينا عن الإجابة عن مثل تلك الأسئلة البسيطة؟ وعليه، فإنها دعوة من القلب لكل مسئول وراع وحريص على هذه المدينة والأرض الطيبة التي عرج منها محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء أن يفكر بحلول وإجابات تدفع بنصرة وتعزيز هذه الأرض. وأتساءل مجدداً: ترى كيف سيكون حال قياداتنا لو جاء أحد الصحفيين ليسأل عن القدس؟ كيف سيواجه تلك الأسئلة حال عدم درايته بها؟ وكيف سيكون موقف ذلك الأجنبي الذي يؤمن بحقنا في تلك الأرض في الوقت الذي نجهل فيه تاريخها. وأختم بأن الصهاينة حين كانوا يجلسوا إلى طاولة المفاوضات يكون بجعبتهم عشرات الخرائط الصغيرة والدقيقة، في الوقت الذي كان يأتي فيه المفاوض الفلسطيني بخفي حنين ثم يعودوا به بعد أن يتنازل ككل مرة عن جزء جديد من تلك البلاد العظيمة.قدسنا.. لك الله.