بالرغم مما يراه البعض من تغيّر المزاج الأوروبي لصالح القضية الفلسطينية، في ضوء المواقف الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، سواء من خلال نشر المبادرات الخاصة بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أو من خلال المواقف المنتقدة للسياسات الإسرائيلية وخاصةً فيما يتعلق بالنشاط الاستيطاني الصهيوني، باعتباره يغلق الآمال بوجه أيّة تسوية بين الجانبين. فقد كانت الدول الأوروبية مضطربة ومترددة - منفردةً أو مجتمعة-، ولكنها مهتمّة بالسعى جاهدةً للعب دورٍ هامٍ في إيجاد الحلول المواتية للقضية الفلسطينية، سواءً بالمشاركة في المؤتمرات الدولية أو بفرض تواجدها في إطار الاتحاد الأوروبي ضمن أعضاء اللجنة الرباعية الخاصة لإيجاد الحلول للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وقد بدت زيادة الاهتمام الأوروبي بالقضية الفلسطينية من خلال إقدام الاتحاد منذ أوائل العام بتعيين السفير "أندرياس رينيكي" كممثلٍ خاصٍ لعملية السلام حيث تتركز مهمته على تطبيق الأهداف الأوروبية في المنطقة وعلى رأسها المساهمة في تحقيق السلام الشامل في المنطقة وإنشاء دولتين فلسطينية وإسرائيلية . ولقد شهدت علاقات المجموعة الأوروبية - الإسرائيلية مؤخرًا، منحىً جديدًا، يوصف بأنه أكثر تفهّماً للقضايا العربية والفلسطينية و– أقل انحيازًا- عن ذي قبل لصالح إسرائيل، وذهب البعض إلى أن علاقات الاتحاد الأوروبي بالسلطة الفلسطينية وإسرائيل شهدت انفكاكاً عن الموقف الأمريكي الحليف لإسرائيل، حيث ظهرت جليًة في إجراءات وقرارات تم اتخاذها ضد الاحتلال وممارساته الاحتلالية والاستيطانية. وتأتي تلك لأسباب كثيرة ربما في ضوء الدعوات العربية والفلسطينية، لإعادة النظر بعلاقاته التشاركيّة مع إسرائيل، ولافتضاح الصورة الحقيقية أمام عينيه، بأن الفلسطينيين هم يمثلون الضحية ، بعدما عانوا في أرواحهم وممتلكاتهم، الآيات المؤلمة من جانب الدولة المحتلة منذ نشأتها وإلى الآن، وبالمقابل أن ثبُت لديه أن إسرائيل لا تريد السلام وهي تُجيد المراوغة وحسب، بالقوة والتعنّت واتهام الآخرين بأنهم العقبة في طريق السلام، إلى جانب مهم وهو وعيها بأن مصالح دولهِ هي موجودة لدى العرب أكثر بأضعاف مما لدى إسرائيل. وبناءً على ما تقدم فإن الاتحاد الأوروبي وإدراكًا منه أن مفتاح أزمات المنطقة العربية يكمن بتغيير موقفه وانحيازه قليلاً لصالح الفلسطينيين، كان كثّف من دوام المراقبة للوضع العام للقضية الفلسطينية من خلال متابعته لجملة الأمور السياسية والاقتصادية والأمنية، وذلك بصورة مباشرة من خلال ابتعاثاته المتكررة للأراضي الفلسطينية، التي كانت تحمل وفي كل مرّة انطباعات دامغة ضد إسرائيل، توصي في أثرها بضرورة تغيير السياسات الأوروبية اتجاهها، من خلال اتخاذ الإجراءات الكفيلة بردعها عن مواصلة ممارسة سياساتها المختلفة ضد الفلسطينيين سواء ما اتصلت بالصلف الصهيوني بشأن المفاوضات السلمية، أو بشأن ممارساته ضد الأسرى في السجون والمعتقلات، أو بالنسبة للنشاطات الاستيطانية التي تمارسها طوال الوقت على حساب الأراضي الفلسطينية. لم يدّخر الاتحاد الأوروبي جهداً، ولجأ في كل مرة إلى إدانة كل الممارسات الإسرائيلية وعلى رأسها النشاط الاستيطاني، وحذرت من عواقب المضي فيه. وبلغت الإجراءات الأوروبية ذروتها، عندما أعلنت المفوضية العامة للاتحاد، قرارها بمقاطعة المستوطنات الواقعة خارج حدود عام 1967، والذي يقضي بمقاطعة كافة المؤسسات الاسرائيلية الواقعة في الضفة الغربية بما فيها القدسالشرقية والجولان المحتل أيضاً. بالرغم من جهود إسرائيل بما فيها الطلب من الولاياتالمتحدة التدخل عن ثنيهِ عن إصدار هذا القرار. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل واجهت إسرائيل مواقف أخرى متشددة، كان آخرها التهديد الألماني بإيقاف المساعدات عن الدولة في حالة استمرار بناء المستوطنات في القدس والضفة. حتى باتت إسرائيل أكثر تخوفاً من اتساع المقاطعة الاقتصادية الدولية لها، لخشيتها من أن تطال هذه المقاطعة العديد من المشاريع الإسرائيلية، بحيث لا تقتصر على منتوجات المستوطنات التي تبلع تجارتها مع أوروبا أكثر من نصف مليار دولار سنوياً. بل تخشى أن يتطور القرار إلى وقف كافة التعاملات الاقتصادية مع إسرائيل، ما يعني خسارة يُقدّر حجمها بأكثر من 17 مليار دولار سنوياً، والتي تقترب من ثلت صادراتها المختلفة. بالرغم من أن الاتحاد الأوروبي اعتبر قراره ليس بحال من الأحوال حكماً مسبقاً على مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل على أمل هذه الطريقة المساهمة في الجهود وخلق الأجواء لمفاوضات جادة تؤدي إلى اتفاقية سلام ذات مغزى بين الجانبين. إلاّ أن إسرائيل اعتبرت الخطاب الأوروبي بأنه خطاباً أيديولوجياً في المواضيع الاقتصادية، ولهذا تشتد الدعوة الأوروبية، إلى فرض المقاطعة على إسرائيل، وأن القرار لن يتوقف على المستوطنات، ولكنه سيطال أنحاء إسرائيل التي يُنظر إليها كدولة احتلال. لم يرق لإسرائيل أيّة إجراءات أوروبية ضدها، فمن جانب اعتبرت القرار بمثابة جائزة للسلطة الفلسطينية كي تبقى على مواقفها بشأن القضايا العالقة ضد إسرائيل، ومن جهةٍ أخرى فهي غير مستعدة لأن تدفع ثمناً سياسيٍ كان أو اقتصادي على حساب الدولة الإسرائيلية، لا سيما وأن المقاطعة كانت ذات جدوى في كل مرة استعملت فيها باتجاه الدول وكانت سبباً مباشراً في حلحلة مواقفها أو تغيير سلوكها، مثل جنوب أفريقيا وروسيا والصين وليبيا وغيرها. ولهذا فقد سارعت إسرائيل بعد أفشالها السياسية باتجاه سياسة الاتحاد، لاستعمال قوّتها الذاتية وتشريع مخالبها لتمزيق الكتف الأوروبية، حيث بدأت بإلغاء كافة التراخيص الخاصة بالمشاريع الأوروبية في داخل أراضي السلطة الفلسطينية، ووقف تحويل الأموال اللازمة بشأن المعونات الذاهبة إلى جمعيات ومؤسسات أهلية وخاصة، وإقرار قيود أخرى ذات شأن، ضد تنقلات الأوروبيين على اختلافهم من مستثمرين ودبلوماسيين وغيرهم من وإلى أراضي السلطة. ثم قامت بالتهديد بحرمان الاتحاد الأوروبي من لعب أيّ دورٍ في التسوية في الشرق الأوسط. كما قامت الحكومة الإسرائيلية بتجهيز العديد من الأدوات السياسية والاقتصادية لمواجهة المواقف الأوروبية ضد توجهاتها، وفي ذات الوقت حاولت التقليل من آثار القرار، من أنه لن يترك تأثيراً كبيراً على إسرائيل. الاتحاد الأوروبي الذي بدا للعيان قوياً وواثقاً من نفسه عند اتخاذه للقرار، بدا الآن ضعيفاً أكثر من المقبول، أمام الإجراءات الإسرائيلية المضادة، والتي أدت إلى إجباره على إبداء الليونة التامّة في شأن النكوص عن قراره والتملص منه، من خلال إبداءه الموافقة – بدايةً- إلى تأجيله قرار مقاطعة المراكز الجامعية في كافة المستوطنات الإسرائيلية، الأمر الذي سيسمح بتدفق الأموال لهذه المراكز تصل الى ربع مليار دولار . وفي سبيل إلغاء قرار المقاطعة أو تجنّبه، واصلت إسرائيل إجراءاتها التصعيدية ضد الاتحاد الأوروبي، بعد تهديد إسرائيل بعدم مشاركتها في مشروع البحث العلمي العالمي (هوريزون 2020)، الذي يشكل أحد أكبر مشاريع البحث العلمي التي يقوم عليها الاتحاد. كون المشاركة الإسرائيلية هي رغبة أوروبية. الأمر الذي أربك الاتحاد الأوروبي وجعله في حالة الواقع في المصيدة ولا مناص من الفكاك منها، ليجد نفسه في الزاوية المغلقة من أجل التعاون مع إسرائيل، لإيجاد حلٍ يمكّن عملياً من الالتفاف على قراره السابق، كمنفذٍ يرضي إسرائيل، في ضوء تعذر إمكانية قيام مفوّضيّة الاتحاد بإلغاء قرار المقاطعة، وبالتالي يجري البحث عن طرق بديلة للالتفاف على قرارها. وقد اقترحت إسرائيل بداية الأمر، أن تعلن كل مؤسسة أو هيئة ترغب بالحصول على الدعم المالي ضمن المشروع المذكور، أن يصرح بالتزامه باستثمار الأموال فقط داخل حدود إسرائيل ما قبل الرابع من حزيران 1967. ولا شك فإن التغيّر في الموقف الأوروبي في هذا الشأن، ليس من أجل الضغوط الأمريكية والإسرائيلية وحسب، أو من أجل الإجراءات المضادة المتخذة من قبل المؤسسة الصهيونية وحدها، بل ساعد في ذلك أن الدول العربية ذاتها، لم تلتزم أمام الاتحاد الأوروبي بمعاقبة إسرائيل على ممارساتها الاستيطانية أو غيرها، ومن ناحيةٍ أخرى عدم متابعتها بالدعم والتشجيع على هذا القرار بإيجاد البدائل، بل اكتفت بتقديم الشكر والثناء على الاتحاد الأوروبي، وهي تعلم أن الشكر والثناء ليس لهما فروع للصرف، ولكن هناك مصالح باعتبارها تحدد الاتجاهات وإن كانت بلا أخلاق، وتُعدّل السلوك ولو كان من حديد.