جاء الرد الاسرائيلي على قرار مفوضية الاتحاد الاوروبي تشديد مقاطعة المستوطنات الاسرائيلية خليطاً من التبجح والهستيريا، لأن اسرائيل لا تتحمل انتقاداً دولياً لسياسة هم أول من يعرف أنها تتناقض والقوانين الدولية. اعتاد حكام اسرائيل على تعامل ناعم معهم طيلة عشرات السنين، خصوصاً من طرف أوروبا. وهم لا يستوعبون بعد أن القرار قد صدر وأنه قرار جدي وهم يصرون على أن يضعوا أنفسهم فوق القوانين الدولية وأن يواصلوا سياسة الاحتلال والتهويد العنصري في عصر يكافح بإصرار للتخلص من الاحتلال والعنصرية. اسرائيل الرسمية، وعبر مسؤولين سياسيين، راحت تطلق الاتهامات للجميع. ولم يتردد أحد المسؤولين في اتهام الرئيس الأميركي، باراك أوباما، شخصياً بالضغط على الأوروبيين لاتخاذ هذا القرار في اطار ممارسة ضغوط على اسرائيل حتى تجمّد البناء الاستيطاني وتشجع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، للوصول إلى طاولة المفاوضات. واعتبر نتانياهو القرار تدخلاً دولياً في حسم اكثر القضايا تعقيداً في مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، وهو جعل حدود عام 1967 حدوداً تفصل بين الدولتين. سياسيون آخرون رأوا ان أبعاد القرار تتجاوز هذه الرؤية الاسرائيلية واعتبروه اسوأ القرارات وأشدّها ضرراً على اسرائيل منذ قرارات إدانة الاحتلال والاستيطان قبل 40 سنة. ولعل اقتراح ممثل بريطانيا في الاتحاد الاوروبي، بتوسيع العقوبات على المستوطنين خارج الخط الاخضر، في مقابل تهديد اسرائيل بالانسحاب من مشروع «هوريزون 2020»، الذي يعتبر احد المشاريع المركزية لدى الاتحاد الاوروبي في مجال العلوم والتكنولوجيا، يعكس أبعاد هذا القرار على اسرائيل، من جهة، وما أحدثه من هزة سياسية فيها من جهة اخرى. ففور الكشف عن هذا القرار انعكست حال التوتر الشديد والهلع في ديوان نتانياهو، بخاصة حيال تبعات القرار على العلاقات بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي. إذ إن اسرائيل ادركت تماماً ان القواعد الجديدة، التي يفرضها هذا القرار، تتلاءم مع موقف الاتحاد الأوروبي بأن المستوطنات ليست شرعية وأن الاتحاد الأوروبي لا يعترف بسيادة إسرائيل في المناطق المحتلة ومن دون علاقة لمكانتها القانونية في القانون الإسرائيلي. ولم يخف اسرائيليون تعاظم قلقهم مع الاعلان عن الدعوة البريطانية بأن يشمل القرار إلزام أي عمل لأي مؤسسة تريد الحصول على تمويل أو أن تشارك في مشروع أو تنافس على منح جوائز يعطيها الاتحاد الأوروبي، الاعلان أنه ليست لها علاقة بالمستوطنات في الضفة الغربية أو في القدسالشرقية أو هضبة الجولان، ليطاول هذا القرار كل مؤسسة إسرائيلية تعمل وراء الخط الأخضر. والقلق الاسرائيلي يكمن في المعطيات الاولية التي تشير الى ان تفعيل القرار الأوروبي سيؤدي إلى ضربة فتاكة للبحوث العلمية في الجامعات الاسرائيلية، لأنها تعتمد على دعم اوروبي كبير. والتوقعات ان تصل الخسارة التي ستلحق بإسرائيل إلى بليون يورو في كل سنة، علماً أن التعليمات للمفوضية الأوروبية، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، ستكون نافذة المفعول حتى عام 2020». وبموجب السياسة الجديدة، المتوقع أن ينتهجها الاتحاد الأوروبي، فإن الحكومة الإسرائيلية ستكون ملزمة بعدم نقل أموال المؤسسات التي تعمل خارج الخط الأخضر، كما أن المؤسسات التي تعمل داخل الخط الأخضر سيتم إلزامها بوقف نشاطاتها التي تقوم بها خارج حدود عام 1967، إذا ما أرادت أن تحصل على أموال المنح. وكان الاتحاد الاوروبي قد عمم في 30 حزيران (يونيو) الماضي تعليمات ملزمة لجميع دول الاتحاد تقضي بمنع تقديم أي تمويل أو تعاون أو منح للأبحاث أو جوائز لمن يتواجد في مستوطنات الضفة الغربيةوالقدس والجولان السوري المحتل. وبموجب التعليمات، فإن أي اتفاق يتم التوقيع عليه في المستقبل مع إسرائيل يجب أن يشمل بنداً ينص على أن المستوطنات ليست جزءاً من دولة إسرائيل، ولذلك فإنها ليست جزءاً من الاتفاق. وأوضح افير دريمر، السفير السابق لدى الاتحاد الاوروبي، مضمون القرار بقوله انه يعني «ألا توقّع اسرائيل اتفاقاً مع الأوروبيين، إلا إذا تضمن رسماً واضحاً لحدود اسرائيل ما قبل عام 1967، وهذه سابقة من شأنها أن تهدد كل الاتفاقات الاقتصادية والثقافية بين الطرفين». وفي سياق توضيحه لهذا القرار، ذكر دريمر، على سبيل المثال، انه في حال وجود محاضر في جامعة تل أبيب يسكن في إحدى المستوطنات، فإن الأوروبيين سيلغون اتفاقاً لدعم بحث علمي يشارك فيه». المستوطنون يستغلون «المحرقة» المستوطنون، اكثر المتضررين، سواء في الضفة والقدس او في الجولان المحتل، وقفوا في واجهة الحملة الاسرائيلية ضد القرار، حتى ان قادة هؤلاء، وعلى رغم محاولتهم الرد بنوع من الاستعلاء، راحوا يستغلون المحرقة النازية وذكّروا الاوروبيين بما شهدته الحرب العالمية الثانية. وردّ مجلس المستوطنين في الضفة برسالة قال فيها: «يبدو ان اوروبا لم تتعلم درس التاريخ وعبرته، فهي تعود، وتحديداً في يوم خراب الهيكل (إعلان القرار جاء في اليوم نفسه الذي أحيا الاسرائيليون ما تُسمّى ذكرى خراب الهيكل) الى سياسة المقاطعة والعزل ضد إسرائيل مقابل دعم غير محدود للفلسطينيين، ما يحوّلها إلى طرف غير محايد». ويقود معركة المستوطنين وزير الاسكان، أوري أرييل، الذي دعا حكومته الى عدم الرضوخ قائلاً: «على الحكومة ألا توقّع تحت أي ظرف من الظروف أي اتفاق، مستقبلياً، من دون أن تكون الضفة الغربية جزءاً من سيادة دولة إسرائيل». وقد عززت القرار الخلافات بين اليمين والحكومة من جهة واليسار الاسرائيلي من جهة اخرى. فدعم وزراء ونواب وسياسيون موقف نتانياهو، الذي دعا فيه اوروبا الى ترك الموضوع جانباً والاهتمام بالتطورات التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط وبذل الجهود في الملفين السوري والايراني، باعتبار انهما يشكلان خطراً، ليس فقط على اسرائيل والمنطقة انما على العالم بأسره. واعتبرت نائبة وزير المواصلات، اليمينية المتطرفة، تسيبى حوتوبيلى، القرار بمثابة عدم اعتراف بسيادة إسرائيل على الضفة الغربية، ومحاولة لإجبار إسرائيل على قبول حل إقامة الدولتين. وفي رأيها، على الأوروبيين أن يفهموا أن تعيين الحدود الفاصلة بين اسرائيل وجيرانها لا يتم من جانب الاتحاد الأوروبى، إنما من جانب الحكومة الاسرائيلية فقط. لكن حركة «السلام الآن»، واجهت اصوات اليمين هذه بموقف اعتبرت فيه القرار بمثابة رسالة واضحة بأن العالم لا يعترف بالمستوطنات، وأن نظام الاستيطان يتناقض مع الديموقراطية العالمية»، ورأت الحركة انه يجب على الاحتلال الإسرائيلى أن ينتهي، محذّرة الحكومة من انها تخوض معركة خاسرة ضد التفاهم العالمي، اذ لا يمكن إسرائيل إجبار الهيئات الدولية على التعاون مع المشروع الاستيطاني». وحظي موقف «السلام الآن»، بدعم سياسيين يعتبرون نتانياهو عقبة اساسية امام عملية السلام. رئيس الحكومة السابق، ايهود أولمرت، قال ان القرار يدل على ان من يمسك المقود في اسرائيل منسلخ عن الواقع الدولي، وهو قرار متوقع، اذ لا يعقل أن يكون هناك جمود في مفاوضات السلام طيلة أربع سنوات من دون أن تدفع اسرائيل ثمناً». وردّ اولمرت على اصوات اليمين مضيفاً: «الأوروبيون لا يكرهون اسرائيل، بل انهم يتخذون هذا القرار لمساعدة اسرائيل ولحمايتها من نفسها ومن قراراتها الغبية». جهات اسرائيلية عدة حمّلت بنيامين نتانياهو مسؤولية هذا القرار بسبب تعنته في رفض مفاوضات السلام وعدم التجاوب مع دعوات الخروج بمبادرة سياسية لدفع عملية السلام. وهؤلاء ردّوا على المستوطنين، الذين حاولوا استغلال المحرقة اليهودية، بتذكيرهم بالجهود التي بذلتها المستشارة الالمانية، انغيلا ميركل، لإقناع اسرائيل بمبادرة سياسية محذرة من انه من دون ذلك لن يكون ممكناً وقف «التسونامي في علاقات الاوروبيين بإسرائيل». وقال الخبير في الشؤون الاسرائيلية، شمعون شيفر: «في ألمانيا، وهي أهم صديقة لإسرائيل في أوروبا، نشأ جيل من الساسة لم يعد مستعداً للاعتذار ولقبول اسرائيل كما هي بسبب ذنب المحرقة فقط. ونشأ جيل جديد من الاوروبيين يتوقع منا ان نبادر وأن نقترح اقتراحات حقيقية للتسوية وأن نتوقف عن الحديث عن معاداة السامية وعن أنه لا حق لهم في ظاهر الامر في أن يعظونا بالأخلاق». وبرأي شيفر، فإن العقدة التي انكشفت الآن مع اوروبا تحتاج من نتانياهو اتخاذ قرارات تاريخية. فمن يتوقع ان يساعده العالم في جهد منع ايران من الحصول على السلاح الذري يجب ان يستجيب لتوقع العالم ان يسلك سلوكاً مختلفاً في الاراضي الفلسطينية المحتلة، بمعنى «يتسهار مقابل نتناز وفوردو»، وهما موقعا التطوير الذري الايراني، هو ليس شعاراً فقط من عقل خلاق بل معادلة تُلزم الطرف الاسرائيلي ايضاً». «ساعة الحقيقة تقترب»، تحت هذا العنوان، حذرت جهات عدة الحكومة الاسرائيلية من أبعاد القرار وعدم الاطمئنان الى امكانية تجميده في شكل موقت. وفي تحذير الاسرائيليين لحكومتهم من انه يمكن اسرائيل أن ترفض القرار ويمكن حكومة نتانياهو ان تواصل وضع المزيد والمزيد من الشروط للاتفاق مع الفلسطينيين. لكن ساعة الحقيقة آخذة في الاقتراب بسرعة. وسيتعين على الحكومة أن تقرر اذا كانت مستعدة لأن تواصل تعريض مستقبل الدولة العبرية للخطر في سبيل استمرار الاحتلال وإرضاء المستوطنين؟