ثَمةَ شِبه إجماع على أن إسرائيل بعد 64 عامًا من قيامها تُواجه الآن بلحظة مصيرية حقيقية، وهذا الإدراك يكاد يتفق عليه أغلب الأكاديميين الإسرائيليين على مختلف آرائهم وأفكارهم.إن ما يجرى اليوم في إسرائيل يحتاج إلى رصد وتحليل موضوعي بعيدًا عن اتفاقنا أو اختلافنا مع ما يطرح عن مستقبل الدولة العبرية، خاصة أن هناك حركة حقيقية داخل المجتمع الإسرائيلي تعبر عنه جماعات صاعدة "النازية الجديدة"، وأخرى موجودة على هامش الأحزاب "تخضير وتبييض وجه إسرائيل"، وثالثة تطالب بمراجعة إسرائيل وهويتها وثقافتها ورؤيتها، وذلك في إطار مراجعة للواقع السياسي سِلْمًا أو حَربًا مع المحيط الإقليمي بل وداخل منظومة المجتمع الإسرائيلي وشرائحه المتباينة.كان في ذهن مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن جوريون السعي لصهر المجتمع الإسرائيلي بأكمله في بوتقة ومنظومة واحدة، بعد أن تعددت الأعراق والثقافات بصورة ظاهرة, الأمر الذي دفع ابن جوريون لطرح فكرة إسرائيل الموحدة أو ما أطلق عليه الأكاديميون الإسرائيليون "الصَّهر، و"التجميع"، و"الضم"، و"الإلحاق"، وهى منطلقاتُ نظريةِ التجميع التي دشنها ابن جوريون، وكان يستهدف من ورائها درء الخطر عن الكيان الوليد من التشرذم والتعدد، وبالتالي عدم الاتفاق القيمي على مبادئ واحدة. وكان لدى ابن جوريون تصور حقيقي بأن المجتمع لكي يكون قادرًا على الاستمرار في محيط إقليمي عربي يرفضه لابد أن يعتمد على أطروحة حقيقية وجوهرية حول الهدف الواحد، وبالتالي إمكانية التوصل لاتفاق حول هوية قومية موحدة بعيدًا عن الهويات المتعددة التي جاء بها اليهود من مختلف بلدان العالم عندما جاءوا إلى إسرائيل ليكونوا اللبنة الأولى للدولة اليهودية الجديدة. وبعيدًا عما يطرح الآن في المجتمع الإسرائيلي حول نجاح أو فشل مؤسس الدولة في الاتفاق على إستراتيجية الصَّهر، فلا شك أنه فشل في تطويرها، أو تقديم البدائل الكافية للتعامل مع المستجدات المجتمعية في إسرائيل؛ ليظل الاعتماد على الطرح الأمني، وعقدة الخوف من الآخر، والترويج لإستراتيجية أمنية ظلت لسنوات طويلة هي الأساس في فكر الدولة اليهودية، حيث كانت النظرة العميقة لضرورة الاتفاق على ثوابت: "نظرية الإجماع الوطني"، و"إسرائيل الأمنية"، و"الذراع الطويلة"، و"نظرية الأمن بلا حدود"، بالإضافة إلى الاعتماد على خيار الحرب بالأساس لحل أية مشكلات، والترويج دوليًّا على أن إسرائيل دولة صغيرة في كيان ضخم يسعى لطمس وجودها. والواقع: إن النظرية الأمنية في لحظات المواجهة مع الدول العربية قد نجحت في تجميع عناصر المجتمع الإسرائيلي، بل وتحقيق نصر في حرب 56, 67، دون أن يعني ذلك أن المشكلة قد حسمت وأن المجتمع الإسرائيلي قد انصهر بأكمله حول أهداف قيمية واحدة، خاصة وأن هدف الإجماع ذاته ظل لسنوات وحتى الآن لا يحظى بقبول عام في المجتمع الإسرائيلي، وبرغم أن ما تحقق في نظر الكثيرين كان كافيًا لاعتبار أن إسرائيل دولة موحدة، وأن جيش الدفاع "تساهل" نجح في تحقيق الهدف وصهر الجميع في إطار موحد، ولكن بنظرة واقعية لما يدور الآن في إسرائيل وبعد مرور 64 عامًا على قيامها نرصد ما يلي:إن الأمن المطلق لم يحسِم المسألة المجتمعية في إسرائيل، وظلت شرائح عديدة غير قادرة على الالتحاق بهذا الكيان- الديمقراطية والليبرالية بالمفهوم الإسرائيلي لم تطبق على عناصر المجتمع الإسرائيلي بأكمله؛ الأمر الذي جعل البعض يطرح التساؤل القديم الجديد: هل حقا توجد ديمقراطية خاصة باليهود دون الآخرين؟ حيث ظلت قضية الأقليات في إسرائيل قائمة ولم تحسم، وظلت عناصر من الدروز وعرب إسرائيل تبحث عن مستقبلها- لم يحسم خيار "من هو اليهودي" قوانين الشتات حتى الآن، وإن كان هناك إعادة نظر في هذا الإطار- فتح ملف إقرار دستور جديد لإسرائيل، فإسرائيل تُحكم بعدة نظم وليس لها دستور ثابت، ودار نقاش عميق حول إسرائيل المستقبلية: هل هي دولة علمانية أم دينية أم ثنائية القومية؟وفي هذا الإطار كان حديث إسرائيل على لسان كبار كتابها وأكاديمييها على ضرورة حسم بعض التوجهات مع دول الجوار أولًا قبل حسم مشاكل الداخل التي لن تحل بسهولة، خاصة مع فشل الأحزاب للوصول إلى حلول واقعية، وانهيار معسكري الوسط ويمين الوسط، وبدء الحديث عن صعود مُتنامٍ لليمين المتطرف، وما صعود ليبرمان وزعامته ل "إسرائيل بيتنا" إلا صورة مصغرة لصعود الجماعات اليمينية الأخرى، وهى في أغلبها حركات عنف وإرهاب وتطرف تسعى إلى جر المجتمع بأكمله إلى ساحة المواجهة، والدليل على ذلك أن حركة "النازية الجديدة" في إسرائيل قد فتحت عشرات الملفات المسكوت عليها في إسرائيل. وليس بخافٍ أيضًا أن ظاهرة غياب الجنرالات المؤثرين، وانكفاء القيادات المدنية على خياراتها، وتردد قيادات الأحزاب، وعدم وجود روح جديدة، كل ذلك قد أفشل بالفعل ظهور سياسة جديدة في إسرائيل تعتمد على إستراتيجية بديلة. وبعد انتهاء عصر شارون لم يستطع المجتمع الإسرائيلي الوصول لقيادة بديلة مثل جيل الآباء المؤسسين؛ فأولمرت ونتانياهو وباراك ورامون وليبرمان وإشكنازى وسنيه دوجان كلها قيادات ضعيفة لا تملك -برغم وجودها- إستراتيجية الحل والحسم والإرغام في المجتمع الإسرائيلي الذي رأى في قياداته الراهنة فشلًا في إيجاد الحلول لمواجهة الأزمات الداخلية والإقليمية، وخاصة أن هذا الأمر ارتبط بطرح تساؤلات أخرى. إن مراجعاتنا كباحثين عرب لما يدور في مؤتمر الدولة العبرية، وسنويًّا في مؤتمر هرتسيليا لتكشف لنا بالفعل عن وجود هواجس حقيقية لليوم التالي في إسرائيل، واحتمال انهيار الداخل الحزبي، وظهور تمرد عام في إسرائيل، أو ربما شيوع حالة من التذمر في مؤسسات الجيش والاستخبارات، يذكرنا ذلك بحالة العصيان في الستينيات التي جرت في "الموساد" و"أمان". كما أن هناك بحثًا دءوبًا حول ضرورة تحديد دور إسرائيل في المنطقة، ليس في نطاق الشرق الأوسط وإنما في المحيط ويرتبط ذلك كله برؤية المؤسسة العسكرية لضرورة رصد المخاطر الواردة على أمن إسرائيل.لقد خرج اليهود القادمون عن الصف، بل وشهدت الدولة العبرية أقل نسبة في معدلاتها منذ عشرين عامًا، الأمر الذي دفع الدولة لتبني إستراتيجية "جلب آلاف اليهود" من الخارج، بل والتحذير من خطورة عدم تحول إسرائيل إلى دولة اليهود في العالم. إن مناعة إسرائيل الأبدية التي عبر عنها مؤتمر هرتسيليا في يناير الماضي يشير إلى كارثة حقيقية في إسرائيل؛ فبحسب تقرير مؤسسة التأمين الوطني فقد بلغ عدد الفقراء في الدولة 1.675 مليون نسمة، وهم يشكلون ما نسبته 24.7% من مجمل السكان مقابل 24.5% حتى نهاية العام, بل وسجلت الهجرة الصهيونية إلى إسرائيل في العام الماضي أدنى مستوى لها كما أشرنا منذ أكثر من 20 عامًا، وكذلك ارتفع عدد الإسرائيليين الذين بالإمكان اعتبارهم هاجروا من إسرائيل في العام الماضي إلى 18 ألف شخص.