أكثر ما يثير حنقي هو رؤيتي لعدد من أصحاب الملايين وهم يتصدرون المجالس الخاصة وعدد ليس قليل من الجالسين يحملقون فيهم وكأنهم مخلوقات غريبة قادمة من الفضاء الخارجي، وكنت في حقيقة الأمر أشفق على أولئك، فأصحاب الدراهم وأكثرهم بدوا مثل منطاد من تلك التي نراها تسبح في الفضاء، وعلى ملامحهم أمارات الثراء والقلق معاً، لكن جنون المال يجعلهم في حالة من الكبر والخيلاء على طريقة (يا أرض اشتدي - ما عليك قدي). أما إخواننا الآخرون (المحملقون) فقد بدأوا في حالة من البؤس والرثاثة (المعنوية) فهم لا (يرفعون) عيونهم عن أولئك المتخمين بالمال، ومع أن أحدنا يحمل قدراً من الاحترام لعدد من الجالسين، إلاّ أن صفاقتهم واحتفاءهم المبالغ فيه، والممقوت - طبعاً - كان لعنة جعلت مقامهم (ينزل) من عيون من كان يحترمهم من قبل. وعلى كل حال فإن أحدنا نحن المراقبين لمناظر كهذه، لا يمكنه بالطبع أن يمنع بعض أهل الملايين من الخيلاء، وأيضاً لا يستطيع أن يوقف (زفة) المطبلين لهم من رواد هذا المجلس أو ذاك، ممن ترك الوقار جانباً وتنازل عن احترام ذاته برغبته، ليضعها في هذا الموقف الذي لا يحسد عليه من (التزمير) لأولئك المليونيرات. تذكرت كل ما تقدم وأنا أجلس مع أسرتي الأسبوع الماضي في مطعم شهير للأسماك في شمال جدة، فقد ابتعت وجبة عشاء بحوالي 300 ريال، لكن قبل أن أدفع الثمن كان أمامي ثلاثة أشخاص يبدو عليهم الارتباك، فقد اشتروا كمية أسماك لم تكن كبيرة جداً، لكن بعد أو وضعها المختص في المطعم بالميزان، أخبرهم أن السعر هو 5700 ريال.. نعم هذا هو المبلغ الذي تأكدت منه وصعقني، فلم أتمالك ألا أن أقول لمن دفع ذلك المبلغ (بالعافية - ياعم) !! وعندما عدت لمكان استراحتي في غرفة عادية سألت العامل البنجلاديشي قائلاً:أنت تتعب في الليل، لكن ستظل مرتاحاً ونائماً بالنهار، أليس كذلك؟ بيد أن العامل صعقني بقوله:أنا لست على كفالة صاحب هذا المطعم الشهير، بل أنا بالأصل أعمل في شركة (.....) وهي كبرى،فأنا أعود من هنا عند الرابعة فجراً، لأبدأ عملي هناك السابعة صباحاً ثم يرسلونني في المساء كل يوم إلى هذا المطعم. وعندها عرفت كيف تتعاظم ثروة عدد من إخواننا أصحاب المحلات والشركات الكبيرة من خلال المخالفات القانونية كهذه، والتي تغيب عنها عين الرقيب،إما تطنيشاً أو عجزاً، ومن خلال عرق أولئك البسطاء الذين يتم (تسخيرهم) ليل نهار بين مكان عملهم الأصلي والآخر غير القانوني، يتولد ثراء بعض الأثرياء. ثم أني تذكرت حكاية أخرى حدثت قبل أشهر وأنا في أحد المراكز الصحية عندما سألت عاملاً للنظافة عن راتبه، فقال إنه 300 ريالٍ فقط مع السكن الذي لا يصلح حقيقة (للمبيت الآدمي) حيث يتم حشر كل مجموعة من العمال في حجرة واحدة، ولك أيضاً أن تنظر إلى سيارة النقل التي تنقلهم (باص كبير) بدون مكيف في عزّ الظهيرة في موسم الصيف والرطوبة، وكيف أن بيننا ومعنا من المليونيرات من تعاظمت ثروته من عرق أولئك الضعفاء، فاللهم إنا نبرأ إليك من ذنوبهم، وقد جهرنا هنا بالبراءة مما يلحق بهم من نصب من أجل أن تنمو ملايين أولئك المفتونين بالدنيا. العجيب (وهذا مهم) أن الواحد من أولئك المليونيرات - كما أسلفت سابقاً - يجلس في المجالس الخاصة (منفوخاً) وكأن ما جناه من دراهم هو بعرقه وذكائه وحكمته، وليس بظلمه وتجاوزه، وعرق بسطاء الناس ممن استغل فقرهم وحاجتهم للقمة العيش، والأمر العجيب الآخر هو (تقدير) حفنة من بلهاء الناس لأولئك المليونيرات و(رفعهم) إلى مقام من التقدير ليس هو مكانهم أبداً!!