قال مُحدثي : حين وصلنا لتلك الأدغال الأفريقية، واتخذنا مقراً مناسباً لبرنامجنا " الدعوي " ، لا أدري حقيقةً كُنه ذلك الشعور الذي بدأ يتقافز في صدري ! كيف أصفه لك؟ ليتني أستطيع ذلك .شعورٌ بالنشوة، والفرح، والاعتداد بالنفس، ربما، وكذلك بالفخر والزهو ..كيف لا؟ ! وأنا الوحيد من بين أصدقائي من حظيت بمرافقة تلك اللجنة " الخيرية " المرسلة لهذه البلاد .فما أن وطئت قدماي تلك الأدغال حتى بدأت دائرة تلك الأحاسيس تتسع وتتسع وتتسع . كنت أردد في نفسي : متى أعود لأقص على أصدقائي العجائبَ التي أبصرت، وكيف كان البرنامج، وكيف كان حالنا مع الوجبات الشحيحة، وكيف كان أولئك القوم ينظرون إليَّ بإكبار، ويبتدروني للسلام عليّ بعد دروسي ..متى ..متى؟ . بالتأكيد سأبصر اللهفة المطلة من عيون أصدقائي، وسألاحظ نظرات الحسد ربما في عيون آخرين .هل أنا مخطئ؟ ربما نعم ! ربما لا ! فمنذ صغري وأنا أحب أن أكون محور الاهتمام في كل مكان أذهب إليه، أحب أن أكون تحت الأضواء، ومحط الأنظار ..وأنا أستحق ذلك، فلدي من المهارات والقدرات ما ليس لدى أقراني . حقَّاً كنتُ أتلهف للعودة ..حتى قابلت تلك الفتاة التي صعقتني أفعالها قبل أن تصعقني كلماتها . كنت مع أحد رفقائي من " الدعاة " نجلس في استرخاء بملابسنا البيضاء النظيفة، نحتسي الشاي تحت شجرة " الكاجو " العجوز، فأبصرتُ منظرًا أغاظني جدדָا، وجعل الدماء تفورُ في عروقي كأنني بركان يوشكُ على الانفجار ..أذهلني منظرها، فتاة شقراء ذات ملامح أوربية ترتدي ثيابًا أفريقية ممزقة، حافية القدمين، تأكل " الويكة " بكل تلذذ، وإن كنت لا تعرف الويكة فهي الطحين المطهو مع البامية، وتمسح على رؤوس الأطفال وتقبلهم، وتنظف أنوفهم . كانت شابة في عمر الزهور، تركَتْ المدنية والتطور والحضارة، وأتت إلى هذه المدينة التي تقبعُ تحت خط الفقر ..دفعني غيظي إلى أن أتقدم إليها وأسألها : ما الذي أتى بك إلى هنا؟ . أجابتني وتطلعتْ إلى السماء : " أنا هنا من أجل الصبية الصغار . واكتشفت حقيقة نفسي،صفعة مؤلمة كانت إجابتها، فقط جاءت لأداء تلك الرسالة والهدف ..لا لشيء آخر، هدفها واضح كالشمس . إجابة جعلتني أراجع نفسي مائة مرة : لماذا أنا هنا؟ لماذا؟ . لله أم لنفسي؟ لنقل رسالة الإسلام أم لنقل أخباري؟ لأدعو إلى الله أم لأستجم وأبصر عجائب الطبيعة؟ لإنقاذ هؤلاء الناس أم للاختيال عليهم؟ لماذا أنا هنا؟ نعم بكيت، ومع تساقط دموعي التي تسقي المعاني الجديدة الوليدة في روحي ..بدأت بمراجعة حساباتي، واتخاذ قرارات جديدة ربما تغير مسار عمري وحياتي بعد أيام طويلة من المعاناة شعرت أن معاني جديدة تنغرسُ في نفسي، بل وتضيقُ الخِناق على دوائر اهتماماتي السابقة لتخنقها وتقضي عليها ..! معانٍ تعلمتها من ذلك الموقف، معان كلها نور على نور : تجريد القصد لله، الإخلاص، المحاسبة ..معان جديدة جعلتني أقرر التمرد على نفسي وقَودَها لطريق آخر ..نحو الحرية الحقيقية، والتي تكمن في التحرر من الاهتمام بإعجاب الآخرين بي أو ازدرائهم لي، وأن لا أخنق نفسي بالترهات، حينها شعرت أنني عبد له سبحانه، حين كسرت طوق عبودية ذاتي ونظرات الآخرين . سكت صديقي وهو يداري دمعات اغرورقت بها عيناه . همست له : أهنئك على تحررك، ولأعلم ولتعلم أن طريق الآخرة يُقطع بالقلوب لا بالأقدام . لا أدري، شعرتُ حينها أن نوارس عديدة ناصعة البياض حرة حلَّقت وحوَّمت حولنا منطلقة للسماء، حيث الحرية الحقيقية، وتذكرت ساعتها قول عطاء الله رحمه الله : " سقت نفسي إلى الله فأبت ..فتركتها ومضيت " .